موقع صنعاء سيتي – تقرير – ماجد الكحلاني

 

 

لم ينتظر الإيرانيون سوى ساعات كي يقلبوا المشهد رأساً على عقب. فجر الجمعة 13 حزيران/يونيو، أطلقت تل أبيب عملية وصفتها بـ«الاستباقية» شاركت فيها نحو مئتي مقاتلة ضربت أكثر من مئة هدف نووي وعسكري داخل إيران، من ضواحي طهران إلى جبال همدان مروراً بأصفهان وتبريز.

الهجوم، الأوسع من نوعه منذ حرب الخليج، أوقع قرابة ثمانية وسبعين شهيداً وثلاثمئة وعشرين جريحاً، وأحال قادة بارزين إلى لائحة الشهداء: اللواء حسين سلامي، القائد العام للحرس الثوري، رفيقه رئيس الأركان اللواء محمد باقري، وقائد مقر «خاتم الأنبياء» اللواء غلام علي رشيد، فضلاً عن ستة علماء نوويين كانوا أعمدة البرنامج الذري الإيراني.

من «الأسد الصاعد» إلى «الوعد الصادق»
حملت الغارة الاسرائيلية اسم “الأسد الصاعد”، لكنها سرعان ما تحولت في الذاكرة الشرق أوسطية إلى “أسدٍ وُجِّه إلى قفصه”.

فبعد ثماني عشرة ساعة فقط، أعلنت طهران “الوعد الصادق 3” حلقة ثالثة في سلسلة بدأت ربيع 2024 وأُكملت خريف العام نفسه.
عند التاسعة مساءً بتوقيت القدس، دوّى وقع أكثر من مئةٍ وخمسين صاروخاً باليستياً ومئة مسيّرة ضاربة اجتاحت سماء فلسطين المحتلة في موجات متلاحقة، منطلقةً من عمق الأراضي الإيرانية تحت غطاء تشويش إلكتروني عطّل رادارات العدو على امتداد خمسمئة كيلومتر.

دقيقة واحدة فوق تل أبيب
في غضون ستين ثانية فقط، اخترقت المقذوفات الإيرانية ثلاث طبقات من الدفاعات الإسرائيلية. أصابت الضربة قواعد حتسريم ورامون وسيركين الجوية، ومجمَّع الصناعات العسكرية وسط تل أبيب، وضربت وزارة الدفاع في الكِرْيَاه، قبل أن تحوّل تسعة مبانٍ سكنية إلى ركام وتجبر سلطات الاحتلال على إجلاء ثلاثمئة مدني وإعلان حالة طوارئ هي الأولى من نوعها داخل العاصمة الاقتصادية للعدو منذ 1948. سجّلت المستشفيات ثلاثةً وستين مصاباً بين مدني وعسكري، فيما دوّت صفارات الإنذار أكثر من أربعمئة مرة خلال ساعتين، لترسم ملامح هلع كان حكراً على غزة وبيروت.

خطاب المرشد وحسم الجبهة الداخلية
الأحداث المتسارعة ترافقت مع إطلالة متلفزة لآية الله علي خامنئي. المرشد لم يُوارب: “حياة الصهاينة ستصبح مُرّة، والقوات المسلحة ستُوجّه ضربات قاسية”.

جاءت كلمته وقد سبقتها بيانات توافقية من الإصلاحيين والمحافظين على حد سواء، الأمر الذي لحّم الجبهة الداخلية وبدّد أحلام تل أبيب في شق الصف الإيراني. ولم تمضِ عشر ساعات حتى أصدر القائد الأعلى مراسيم بتعيين اللواء محمد باكبور قائداً للحرس، والفريق عبد الرحيم موسوي رئيساً للأركان، واللواء علي شادماني على رأس مقر «خاتم الأنبياء»، في رسالة بأن لا فراغ قيادياً ولو للحظة.

عجز تل أبيب أمام عمق زاغروس
كشفت “الوعد الصادق 3” مقدار الفجوة بين الإرادة السياسية الإسرائيلية والقدرة العملانية الفعلية. فالأنفاق النووية الجديدة في نطنز حُفرت على عمق يناهز مئة متر تحت صخور جبال زاغروس، أعمق من قدرة الاختراق الأقصى لقنبلة GBU-57 الأمريكية نفسها. هذه القنبلة، التي تزن ثلاثين ألف رطل، لا يمكن حملها إلا على قاذفات الشبح «بي-2» أو «بي-1» الممنوعة على سلاح الجو الإسرائيلي حتى اللحظة.
وحتى لو افترضنا حصول تل أبيب على السلاح والمنصات، فإن حملة جوية كهذه تحتاج أكثر من مئةٍ وعشرين طائرة مقاتلة وخمسٍ وعشرين ناقلة وقود تقطع مسافة ألفٍ وستمئة كيلومتر، وهي إمكانات غير متوافرة حالياً لدى الجيش الإسرائيلي.

محور المقاومة على الخط
بينما كانت صواريخ طهران تتهادى فوق تل أبيب، أعلن الشيخ نعيم قاسم أنّ حزب الله “يدعم ما تقرّره الجمهورية الإسلامية ويفاخر بخياراتها”.

الحزب اكتفى حتى الساعة بعمليات تكتيكية على الحدود الشمالية، لكنه أبقى فتيل الانفجار الشامل بيد القيادة الإيرانية. في البحر الأحمر، كثّفت القوات المسلحة اليمنية عملياتهم على خطوط الشحن الإسرائيلية، فارتفعت أقساط التأمين العالمي وتباطأت التجارة عبر باب المندب، بينما لمح الحرس الثوري إلى احتمال إغلاق مضيق هرمز حيث يمر خمس الطاقة العالمية.

عواصم التطبيع تصمت… وواشنطن تتخوّف
المفارقة أنّ الردود العربية جاءت باهتة؛ بيان سعودي خجول دان “الاعتداءات السافرة” ثم تلاشى في ضجيج المعارك، فيما اكتفت عواصم اتفاقات إبراهيم بدعوات فضفاضة إلى «خفض التصعيد». في المقابل، شاركت البحرية الأمريكية في اعتراض بعض المسيّرات فوق المتوسط والخليج، لكنها امتنعت عن التورط الهجومي المباشر. واشنطن، التي تعاني أصلاً نقصاً حاداً في مخزونات الذخائر بعد حرب أوكرانيا، تخشى انزلاق الشرق الأوسط إلى حرب استنزاف طويلة تستهلك فائضها التسليحي وتمنح بكين وموسكو هوامش أوسع.

 

من «حرب الظل» إلى اشتباك مكشوف
ما بدأ قبل سنوات بعمليات تخريب واغتيال في العتمة خرج اليوم إلى الشمس. في “الوعد الصادق 1” ردّت طهران بمسيّرات محدودة على قصف قنصليتها بدمشق. في النسخة الثانية، أمطرت إسرائيل بأكثر من مئتين وخمسين صاروخاً بعد اغتيال قادة مقاومة في بيروت. اليوم، تحول الرد إلى زلزالٍ في قلب تل أبيب نفسها، موجهاً رسالة صريحة: زمن الضربات من دون تكلفة انتهى، وكل استهداف للعمق الإيراني سيقابَل بضربة مماثلة في العمق الإسرائيلي.

ماذا بعد؟
لم يمضِ على خمود العاصفة سوى ساعات حتى أطلق الحرس الثوري دفعة جديدة من صواريخ “خيبر” المجنحة نحو أهداف لم يُكشف عنها. ومع كل صاروخ ينطلق، تتعمق المعضلة في أروقة القرار الإسرائيلي: كيف تحتفظ بقدرتها الردعية من دون غطاء أمريكي هو نفسه يتآكل سياسياً وعسكرياً؟ وكيف تمنع تحوّل الحرب الخاطفة إلى استنزافٍ مفتوح يشبه ما واجهته واشنطن في أفغانستان والعراق؟

الخلاصة:

أن “الوعد الصادق 3” لم يكن رداً على عملية واحدة، بل إعلاناً رسمياً لولادة معادلة ردع جديدة في الإقليم. فقد اهتزّت صورة تل أبيب التي طالما ادّعت امتلاك السماء، ووحّدت طهران صفوفها خلف شعار «أمن الجمهورية خط أحمر». وبين عجز إسرائيل عن تدمير البرنامج النووي، واستعداد إيران لإطالة أمد المواجهة، يجد الشرق الأوسط نفسه أمام مرحلة تُعيد توزيع موازين القوة وتترك العالم كله على حافة خليجٍ يغلي… ينتظر الشرارة التالية.

التعليقات مغلقة.