ما قيل بهدوء أخطر مما يُقال تحت القصف
صنعاء سيتي | مقالات | أحمد ابراهيم المنصور
في اللحظة التي خرج فيها الخطاب، كان واضحاً أن الكلمات لم تُلقَ من فراغ ولا كُتبت لتملأ فراغ البث. هناك وزن ثقيل خلف كل جملة، وزن يعرفه من تابع مسار هذه الحرب يوماً بيوم، ومن عاش في صنعاء وهو يسمع الأخبار تختلط بأصوات الطائرات البعيدة، ومن اعتاد أن يربط بين غزة والبحر الأحمر أكثر مما يربط بين نشرات الطقس. الإعلان عن ارتقاء أبو عبيدة جاء بارداً في نبرته، مضبوطاً في لغته، خالياً من أي استعجال عاطفي. هذه ليست صدفة، إنما هي طريقة إدارة صراع طويلة النفس.
في الحسابات العسكرية البحتة، خسارة ناطق عسكري بحجم أبو عبيدة لا تُقاس بوظيفته الإعلامية وحدها. الرجل كان واجهة لمنظومة ضبط إيقاع المعركة، يخرج حين يجب، ويصمت حين يكون الصمت جزءاً من الاشتباك. الإعلان عن استشهاده بعد زمن من الاستهدافات المعلنة يؤكد أن القسام تعامل مع هذا الملف كجزء من إدارة الضرر، وليس كحادثة طارئة. التوقيت هنا رسالة بحد ذاته: ما تغيّر على الأرض كان قد أُخذ في الحسبان منذ وقت، والخطاب لم يأتِ لشرح خسارة، ولكنه جاء لترتيب صورة المشهد بعدها.
الخطاب ربط، من حيث لا يصرّح، بين الفرد والبنية. هذه نقطة مركزية في فهم عقل المقاومة. الشخصيات تُقدَّر، تُكرَّم، ويُعلن ارتقاؤها بوضوح، غير أن البنية تُقدَّم دائماً على الأسماء. هذا النهج يقطع الطريق على الرهان الإسرائيلي–الأمريكي الدائم: رهان تفكيك الخصم عبر ضرب الوجوه. التجربة الممتدة من جنوب لبنان إلى غزة تقول إن هذا الرهان خاسر، ومع ذلك يُعاد تدويره في كل حرب، كأن واشنطن وتل أبيب تعانيان عمىً متكرراً في قراءة الخصم.
اللافت في الخطاب أيضاً أنه خرج من موقع من يقيّم مرحلة، لا من ينعى مرحلة. لا تهديدات لفظية فائضة، ولا استعراض كلمات. التركيز كان على الاستمرارية، على أن المعركة تجاوزت فكرة المتحدث والناطق والرمز الفردي. هذا الأسلوب يُفهم داخل السياق الأشمل لمحور المقاومة، حيث يجري التعامل مع الحرب باعتبارها سلسلة متصلة الجبهات. غزة هنا ليست جزيرة معزولة، وصنعاء ليست بعيدة عن هذا الحساب، حتى لو بدا المشهد جغرافياً متباعداً. من يتابع مسار البحر الأحمر، والضغط على خطوط الملاحة، يدرك أن الرسائل العسكرية تتنقل بوسائط متعددة، بعضها صاروخي وبعضها لغوي.
أمريكا، في هذا المشهد، تبدو كمن يدير أزمة تتجاوز قدرته على الضبط. الدعم المفتوح للكيان الصهيوني لم يحقق الردع المطلوب، ولا أعاد ترميم صورة الهيبة. على العكس، كل ضربة قاصمة تُعلنها تل أبيب، ثم يتبيّن بعدها أن البنية الأساسية للخصم ما زالت تعمل، تعمّق مأزق واشنطن أكثر. الخطاب القسامي لم يحتج إلى ذكر أمريكا بالاسم كثيراً، غير أن حضورها كان واضحاً في الخلفية، كراعٍ سياسي عاجز عن حسم نتيجة، وكقوة عسكرية تلوّح ولا تتقدم.
من زاوية يمنية، يصعب فصل هذا الخطاب عن المزاج العام في صنعاء. هنا، تُقرأ الكلمات بعين مختلفة. الناس اعتادت أن ترى كيف يُدار الصراع حين يكون الطرف المقابل متفوّقاً تقنياً، وكيف تتحول نقاط الضعف إلى أدوات إنهاك طويلة الأمد. حين يُقال إن استشهاد قائد لا يغيّر مسار المعركة، فذلك مفهوم عاشه اليمنيون عملياً. التجربة المحلية جعلت هذا الكلام مألوفاً، أقرب إلى توصيف واقعي منه إلى شعار. الواحد يسمع الخبر، يهز رأسه، ويقول: قدهم حسبوها من بدري.
الخطاب، في عمقه، يقدّم قراءة معاكسة للسردية الإسرائيلية. هناك إصرار على أن الزمن يعمل ضد الاحتلال، وليس لصالحه. كل جولة قتال تستهلك من مخزون الثقة الداخلي، من الاقتصاد، من صورة الردع. في المقابل، منظومة المقاومة تتعامل مع الاستنزاف كخيار مركزي، وليس كحل اضطراري. الإعلان عن ارتقاء شخصيات قيادية ضمن خطاب مضبوط يهدف إلى تطبيع فكرة الخسارة ضمن معادلة الصمود، بحيث لا تتحول الخسارة إلى كسر معنوي.
سياسياً، الرسالة موجهة أيضاً إلى الإقليم. من يراقب ردود الفعل يدرك أن الخطاب لم يكن موجهاً للداخل الفلسطيني وحده. هناك إشارات غير مباشرة لحلفاء وخصوم على حد سواء: المعركة مستمرة، والرهانات على إنهاك طرف واحد غير واقعية. هذا مهم في لحظة تشهد فيها المنطقة إعادة تموضع صامتة، حيث تراقب بعض الأنظمة اتجاه الريح قبل اتخاذ مواقف أكثر وضوحاً.
الخطاب لا يمكن قراءته كنص عزائي ولا كبيان تعبئة. هو وثيقة سياسية–عسكرية مختصرة، تُعيد تثبيت قواعد اللعبة: القيادة تتبدل، البنية تبقى؛ الأسماء ترتقي، المسار يستمر؛ الضغط يتصاعد، والانكسار لا يظهر. هذه قراءة لا تُرضي من يبحث عن مشهد سريع، غير أنها تُقلق من يفهم معنى الحرب الطويلة. في زمن اعتادت فيه واشنطن وتل أبيب على نتائج سريعة، يأتي هذا النوع من الخطاب ليذكّر بأن الصراعات الكبرى لا تُحسم بضربة، ولا بخطاب، بل بتآكل بطيء، وهذا ما يجعلهم في حالة قلق دائم، مهما حاولوا إخفاءه.
التعليقات مغلقة.