أبو عبيدة… قائد جناح الحرب النفسية لحركة حماس بالكلمة واللثام

صنعاء سيتي | متابعات

 

في ساحات الصراع المعاصرة، لم تعد القوة العسكرية وحدها كافية لحسم المعارك، بل أصبحت الحرب الإعلامية والعمليات النفسية جزءاً لا يتجزأ من الاستراتيجية الشاملة. في هذا السياق، برز أبو عبيدة، الناطق العسكري باسم كتائب القسام، كشخصية محورية، لا يقتصر دوره على نقل المعلومات الميدانية، بل امتد ليشمل صياغة الرواية وبناء الرمزية.

إن حضوره المستمر عبر المنصات الإعلامية، وهو ملثم الوجه، جعله أيقونة فريدة، تحولت من متحدث باسم حركة عسكرية إلى صوت يمثل قضية أوسع. حيث أن غموضه المتعمد لا يمثل حاجة أمنية فحسب، بل هو مكون أساسي في وظيفته، إذ جعله رمزاً يكتسب قوته من غياب ملامحه.

السر وراء هوية “أبو عبيدة”

تعتبر الهوية الحقيقية لأبي عبيدة موضوعاً متنازعاً عليه، وهو ما يضيف طبقة من التعقيد إلى شخصيته ويجعلها جزءاً من الصراع الدائر، حيث أشارت مصادر “إسرائيلية” وغربية إلى أن اسمه الحقيقي هو حذيفة سمير عبد الله الكحلوت، هذه المصادر حددت تاريخ ميلاده في 11 شباط 1985، ومن الناحية الأكاديمية، تشير المصادر إلى أن أبو عبيدة تلقى تعليمه في مدارس وكالة “غوث” وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، واستكمل دراساته العليا في الجامعة الإسلامية في غزة، حيث حصل على درجة الماجستير في تفسير القرآن الكريم.

إن الحفاظ على هويته المجهولة ليس مجرد إجراء أمني، بل هو جوهر استراتيجية الحرب النفسية التي ينتهجها. بتحويل نفسه من شخصٍ ملموس يمكن استهدافه إلى رمز غير مرئي، يضمن أبو عبيدة أن اغتيال الفرد لا يعني بالضرورة القضاء على الرمز.

عندما أعلنت “إسرائيل” اغتياله ونشرت صوراً مزعومة له، كان ذلك محاولة مباشرة لـ”كشف” الرمز، وإعادته إلى مجرد رجل عادي، وبالتالي تقويض قوته الرمزية. لكن ذلك لم ينجح لأن أبو عبيدة حُفر في أذهان الناس بهوية “الرجل الملثم” الذي لا يمكن كسر رمزيته بصورة واضحة الملامح.

كما أن خلفيته الأكاديمية في تفسير القرآن الكريم لا تعد تفصيلاً عابراً؛ بل هي الأساس الفكري لأسلوبه الخطابي. إن تدريبه في هذا المجال يفسر استخدامه المتكرر والمحكم للآيات القرآنية والإشارات الدينية في خطاباته، كما أنّ عمق معرفته ساهم بشكل مباشر في بناء مصداقيته لدى جمهوره الأساسي في العالم العربي والإسلامي، الذي يشارك نفس المرجعية الدينية والثقافية.

مسيرة “أبو عبيدة” وتطوراتها

تُظهر مسيرة أبو عبيدة تطوراً ملحوظاً في دوره، من مجرد معلن للعمليات إلى قائد استراتيجي للجبهة الإعلامية. ظهر لأول مرة في عام 2002 ليمثل كتائب القسام أمام وسائل الإعلام في مؤتمرات صحفية، وبعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في عام 2005، تم تعيينه رسمياً متحدثاً باسم الكتائب.

كان ظهوره الأول الذي أكسبه شهرة واسعة في عام 2006 عندما أعلن عن أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط. تبع ذلك إعلان آخر هام في عام 2014 عن أسر الجندي الإسرائيلي شاؤول أرون. خلال هذه الفترة، كان دوره يقتصر بشكل أساسي على تأكيد الإنجازات العسكرية ونقل رسائل محددة تتعلق بملف تبادل الأسرى.

ومع أحداث السابع من أكتوبر 2023، تحوّل دوره بشكل جذري، حيث أصبح الشخصية المركزية التي تقود حملات الدعاية والحرب النفسية لكتائب القسام. وشمل دوره الجديد نشر مقاطع فيديو لأحداث أكتوبر، وإصدار مقاطع فيديو تهدف إلى بث الرعب النفسي في قلوب “الإسرائيليين”، وتنسيق استراتيجية الإعلام لجميع الكتائب والألوية، حتى أصبحت خطاباته تُنتظر على نطاق واسع وتُعامل كبيانات رسمية من قلب المعركة.

ومجرد الإعلان عن خطاب مرتقب لأبي عبيدة أصبح حدثاً بحد ذاته، وإيذاناً بوقوع حدث كبير، ما يدل على أن شخصيته قد بلغت مستوى من المصداقية تحمل ثقلاً عسكرياً أو سياسياً.

لغة “أبو عبيدة” ورمزيته

يُعَدّ خطاب أبو عبيدة دراسة حالة متقدمة في فن الإقناع، إذ يمزج بين تقنيات بلاغية ودعائية متعددة. بالنظر إلى خطاباته من منظور هذه المقومات، نجدها مصممة بدقة لتحقيق أقصى تأثير. حيث يستعمل “المنطق” من خلال عرض أرقام وإحصاءات محددة، مثل عدد الآليات العسكرية التي دُمِّرَت، لتعزيز مصداقية روايته عن الواقع الميداني. أما “المصداقية”، فبُنيت عبر شخصيته الغامضة وخطاباته الدقيقة التي تتجنب المبالغة، ما رسخ الثقة به كمتحدث.

إضافةً إلى ذلك، يستخدم أبو عبيدة تقنيات دعائية محددة، مثل “التعميمات البراقة”و”التسمية السلبية”. فاستخدامه لعبارات مثل “العدو المجرم” و”الكيان الغاصب” يهدف إلى نزع الشرعية عن الطرف الآخر.

من جانب آخر، يُعدّ الخطاب الرمزي ركناً أساسياً في بلاغة أبو عبيدة. فهو يدمج ببراعة المراجع الدينية والتاريخية، مثل وصف مقاتلي حماس بأنهم “عباد الله” الذين اختارهم الله لتنفيذ انتقام إلهي ضد إسرائيل. أما اختيار كنيته “أبو عبيدة” فهو بحد ذاته عمل رمزي، إذ يُعدّ تيمّناً بالصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح، فاتح القدس وأمين الأمة، مما يربط النضال المعاصر بإرث الفتوحات الإسلامية المبكرة.

ويُنهي أبو عبيدة خطاباته بعبارة ثابتة “وإنه لجهاد نصر أو استشهاد”، وهي عبارة تُنسب إلى الشيخ عز الدين القسام، وهذا يربط رسالته بسلسلة تاريخية من المقاومة الأيديولوجية.

أما مظهره الخارجي، فلم يظهر أبو عبيدة أبداً مكشوف الوجه، وبعدما استخدم القناع الأسود في بداية ظهوره، أصبح يستخدم الكوفية الحمراء لثاماً يغطي معظم وجهه ما عدا العينين، وهو ما منحه لقبه الشعبي “الملثم”، مقتدياً بذلك بالقيادي السابق في “كتائب القسام” عماد عقل، الذي قتلته إسرائيل عام 1993 وكان ينفذ جميع عملياته مخفياً وجهه بكوفية حمراء.

كيف تواصل “أبو عبيدة” مع العالم؟

حرص “أبو عبيدة” على التواصل مع العالم عبر كل الوسائل المتاحة، ووجه رسائله أحياناً للفلسطينيين سواء في غزة أو الضفة الغربية أو داخل إسرائيل، وأحياناً توجه بخطابه للجمهور الإسرائيلي منتقداً، في الغالب، أداء رؤساء الحكومات والساسة “الإسرائيليين”، وخاطب الجمهور العربي والمنظمات الدولية كذلك.

إلى جانب ظهوره في كلمات متلفزة تذيعها قناة “الأقصى” الفضائية وتعيد بثها قنوات أخرى، استخدم “أبو عبيدة” وسائل التواصل الاجتماعي لتمرير رسائله لجمهور أوسع، فأنشأ صفحة على موقع “فيسبوك”، وحسابات مختلفة على موقع “تويتر” (إكس الآن)، لكن جميع هذه الحسابات كان يجري حذفها بعد فترة، وأحياناً بعد ساعات من إنشائها.

اكتفى “أبو عبيدة” بعد تكرار إغلاق حساباته عبر “فيسبوك” و”تويتر” بإرسال تغريداته عبر تطبيق “تلغرام”، والظهور في خطابات مسجلة مرئية أو صوتية تذاع على القنوات التلفزيونية المختلفة.

“أبو عبيدة” ينتصر ويستشهد

قصف “جيش” الاحتلال شقة سكنية في حي الرمال بمدينة غزة، أواخر آب أغسطس الفائت، ونقلت وسائل إعلام “إسرائيلية” عن مصادر أن هدف الغارة هو أبو عبيدة، قبل أن يؤكّد رئيس حكومة العدو مجرم الحرب، بنيامين نتنياهو ذلك في مستهل جلسة حكومته الأسبوعية يوم الأحد 31 آب، مضيفاً أنهم ينتظرون نتائج الغارة.

وبعد ساعات من إعلان نتنياهو، صرّح وزير “أمن” الكيان الصهيوني المجرم، يسرائيل كاتس، بأن “إسرائيل نجحت في اغتيال أبو عبيدة”، ثم نشر “جيش” الاحتلال وجهاز “الشاباك” بياناً مشتركاً زعما فيه أن عملية اغتيال أبو عبيدة نجحت بالفعل.

وجاء الإعلان الرسمي لنبأ الاستشهاد عبر بيان لحركة “حماس” نشر بتاريخ 29 كانون الأول من عام 2025، حيث نعت القسام أبو عبيدة مع كوكبة من القادة الشهداء.

وفي بيان للناطق الجديد باسم القسام، نعت الكتائب استشهاد كلا من قادتها محمد السنوار (أبو إبراهيم)، قائد أركان كتائب الشهيد عز الدين القسام، ومحمد شبانة (أبو أنس)، قائد لواء رفح في كتائب القسام، والقائد الكبير حكم العيسى (أبو عمر)، ورائد سعد (أبو معاذ)، قائد ركن التصنيع في كتائب القسام، والناطق باسم كتائب القسام (أبو عبيدة).

وباسمه الحقيقي حذيفة سمير عبد الله الكحلوت (أبو إبراهيم)، زفّت القسام أبو عبيدة بوصفه صوت الأمة الهادر ونبض فلسطين وشعبها وصاحب الأثر العظيم، قائلةً: “لا يمكننا أن نتوقف إلا إجلالاً وإكباراً أمام صاحب هذا المقام الملثم الذي أحبه الملايين وانتظروا إطلالته بشغف”.

 

*الاخبار اللبنانية

التعليقات مغلقة.