هكذا قدّم اليمنيون النموذج القرآني كاستراتيجية انتصرت لغزة وبنت معادلات المعركة القادمة مع أعداء الأمة

صنعاء سيتي | تقرير خاص

منذ اندلاع معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، لم يكن الموقف اليمني من العدوان الصهيوني على غزة مجرد رد فعل عاطفي أو اصطفاف سياسي عابر، بل تجلّى امتدادًا طبيعيًا لهوية قرآنية تراكمت عبر سنوات من المواجهة مع المشروع الأمريكي‑الصهيوني في المنطقة. اليمن لم يصغِ موقفه في غرف دبلوماسية مغلقة، ولا انتظر تصاريح من تحالفات دولية، بل جعل من القرآن دستورًا للفعل، ومن الخطاب السياسي مرشدًا للقرار، ومن الفعل الميداني ترجمة عملية للنصوص القرآنية التي ترى في نصرة المظلوم واجبًا لا خيارًا.

ما ميز الموقف اليمني أنه ارتبط بالقدرة على التحرك الاستراتيجي وليس بالشعارات الإعلامية؛ فقد خرجت صنعاء من دائرة البيانات التقليدية إلى الفعل الميداني المباشر، بدءًا من دعم غزة سياسيًا وعسكريًا، مرورًا بتحريك الشارع اليمني إلى التضامن الفعلي، وصولًا إلى استخدام القدرات الصاروخية والبحرية لتوجيه رسائل واضحة للكيان الصهيوني والداعمين له. كل هذه الخطوات لم تكن مجرد ردود فعل، بل خطة مدروسة تعكس فهمًا عميقًا لمعنى السيادة، والاستعداد لمعركة أوسع قادمة، يُحضَّر لها من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، ضد اليمن ومشروعه المقاوم.

في هذا التقرير، سنحاول الإجابة على سؤال مركزي: كيف قدّم اليمن النموذج القرآني عمليًا خلال إسناد غزة، وكيف تُترجم هذه التجربة إلى استعداد استراتيجي شامل لمعركة محتملة قادمة، مستندين في ذلك إلى شواهد ميدانية، تصريحات رسمية، وخطابات قيادية، ضمن سردية سياسية واضحة من صنعاء، توازن بين التحليل الصحفي والدافع التعبوي.

قرار المواجهة – من الموقف القرآني إلى التفويض الشعبي ودخول المعركة

لم يتأخر الموقف اليمني في الانتقال من توصيف العدوان الصهيوني على غزة إلى اتخاذ قرار المواجهة، إذ جاء هذا القرار في سياق سياسي قرآني واضح، عبّرت عنه قيادة صنعاء منذ الأيام الأولى لمعركة طوفان الأقصى. ففي خطابه العلني الأول عقب اندلاع العدوان، أعلن قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي أن ما يجري في غزة “عدوان شامل وإبادة جماعية”، وأن الصمت أو الحياد تجاهه يمثل سقوطًا أخلاقيًا ودينيًا، مؤكدًا أن اليمن “لن يقف موقف المتفرج”.

هذا الإعلان لم يُقدَّم بوصفه موقفًا خطابيًا، بل كتمهيد صريح لقرار مواجهة، وهو ما انعكس سريعًا في مستوى التفاعل الرسمي، حيث صدرت مواقف متزامنة عن حكومة صنعاء ومؤسساتها السياسية، حمّلت الكيان الصهيوني والولايات المتحدة المسؤولية الكاملة عن الجرائم المرتكبة، وأكدت أن اليمن معنيّ مباشرة بما يجري في غزة، باعتباره جزءًا من معركة أوسع ضد مشروع الهيمنة الأمريكية الصهيونية في المنطقة.

بالتوازي مع ذلك، شهد الداخل اليمني تفاعلًا شعبيًا غير مسبوق، تُوّج بالخروج المليوني الأول في العاصمة صنعاء وعدد واسع من المحافظات، في مشهد لافت من حيث الحجم والتوقيت والدلالة. هذا الخروج، الذي جاء بعد أيام قليلة فقط من بدء العدوان، لم يكن استجابة عاطفية متأخرة، بل تحركًا سريعًا ومنظمًا، عبّر عن جاهزية الشارع اليمني لتحمّل تبعات قرار المواجهة. وتواصلت هذه المسيرات بشكل أسبوعي منتظم، لتتحول إلى واحدة من أوسع وأطول موجات التضامن الشعبي مع غزة على مستوى العالم، من حيث الاستمرارية والكثافة.

الدلالة الأهم في هذا الحراك الشعبي لم تكن في الأعداد وحدها، بل في مضمونه السياسي الواضح. فالهتافات واللافتات والخطابات التي رافقت هذه المسيرات عبّرت صراحة عن تفويض شعبي كامل للقيادة القرآنية، ممثلة بقائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي، لاتخاذ ما يلزم من خطوات عملية نصرةً لغزة، بما في ذلك الدخول في مواجهة مباشرة مع الكيان الصهيوني. بهذا المعنى، لم يكن الشارع مجرد داعم للموقف، بل شريكًا في صنع القرار، ومصدرًا لشرعيته.

هذا التفويض الشعبي تلاقى مع الإعلان الرسمي الحاسم من قائد الثورة، حين أكد في خطاب لاحق أن اليمن دخل فعليًا في معركة إسناد غزة، وأن هذا القرار جاء استجابة للواجب الديني، وانسجامًا مع إرادة الشعب اليمني. أعقب ذلك البيان الأول الصادر عن القوات المسلحة اليمنية، والذي أعلن بشكل واضح بدء المشاركة المباشرة في المواجهة ضد الكيان الصهيوني دعمًا لغزة، واضعًا حدًا لأي التباس حول طبيعة الدور اليمني أو سقفه.

بهذه السلسلة المتتابعة من الوقائع—قرار معلن، تفاعل رسمي، تفويض شعبي واسع، خروج مليوني غير مسبوق، ثم إعلان رسمي بدخول المعركة—يتضح أن الموقف اليمني لم يكن وليد لحظة انفعال، بل مسارًا تصاعديًا محسوبًا، بدأ من المرجعية القرآنية، وتحوّل إلى قرار سياسي، ثم اكتسب شرعيته الشعبية، قبل أن يُترجم إلى موقف عملي واضح. هذا المسار هو ما مهّد للانتقال إلى مستوى الفعل الميداني، الذي سيُتناول تفصيله في المحور التالي.

من التفويض الشعبي إلى الاشتباك العسكري: القرآن في ميدان النار والسيادة

مع اكتمال التفويض الشعبي والرسمي لدخول المعركة، انتقل الموقف اليمني من مستوى القرار إلى مستوى التنفيذ الميداني المنظم. هذا الانتقال جاء ثمرة عملية تعبئة عامة واسعة أُطلقت منذ الأسابيع الأولى للعدوان على غزة، شملت برامج تجنيد وتأهيل عسكري أعلنت الجهات المختصة في صنعاء أنها استوعبت مئات الآلاف من المقاتلين، في إطار استعداد مفتوح رُبط صراحة بإسناد غزة والاستعداد لأي مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.

بالتوازي، برز الدور القبلي كرافعة حاسمة لهذا المسار، حيث شهدت المحافظات اليمنية وقفات قبلية موسعة أعلنت النفير العام، وقدّمت خلالها قوافل مالية ولوجستية لدعم القوات المسلحة اليمنية. هذه التحركات لم تكن ذات طابع رمزي، بل جاءت موثّقة في بيانات رسمية أكدت أن الموارد القبلية سُخّرت مباشرة لمسار الإسناد العسكري لغزة، بما أعاد إنتاج علاقة التعبئة التاريخية بين القبيلة والدولة في سياق سيادي قتالي واضح.

الإعلان العملي لدخول المعركة جاء عبر البيان الأول للقوات المسلحة اليمنية، الذي أكد بدء العمليات العسكرية المباشرة دعمًا لغزة، وحدّد ساحات الاشتباك وأهدافها. منذ ذلك الإعلان، دشّنت صنعاء مرحلة جديدة من الصراع، لم تعد فيها غزة ساحة معزولة، بل نقطة انطلاق لتوسيع الاشتباك باتجاه المصالح الصهيونية والإقليمية المرتبطة بها.

على المستوى البحري، نفّذت القوات المسلحة اليمنية أكثر من 120 عملية استهدفت سفنًا تابعة للكيان الصهيوني وأخرى داعمة له، في مسرح عمليات امتد من البحر الأحمر إلى باب المندب وخليج عدن. تنوّعت العمليات بين الإغراق والاستهداف المباشر وعمليات الاحتجاز، ما أدى إلى إرباك فعلي لحركة الملاحة المرتبطة بالعدو، وفرض واقعًا أمنيًا جديدًا على أحد أهم الممرات البحرية العالمية، وهو ما انعكس في تغيير مسارات الشحن وتدخل أمريكي بريطاني مباشر لحماية الملاحة.

بالتوازي، صعّدت صنعاء عملياتها الصاروخية والجوية، بإطلاق مئات الصواريخ الباليستية والمجنّحة، بما فيها الفرط صوتية، إلى جانب مئات الطائرات المسيّرة التي استهدفت مواقع حساسة داخل عمق الكيان، شملت مطارات ومنشآت عسكرية. هذه العمليات، وفق الخطاب الرسمي في صنعاء، لم تُقدَّم كاستعراض قوة، بل كتطبيق عملي لمفهوم إعداد العُدّة في الخطاب القرآني: قوة تُبنى تحت الحصار، وتُستخدم بوعي، وتُوظَّف لفرض كلفة مباشرة على العدو ومنعه من الاستفراد بغزة، ما جعل الإسناد اليمني ينتقل من التضامن إلى الاشتباك السيادي الكامل.

معركة الوعي: الاستعداد للمواجهة القادمة وكسر خطاب الحياد وفضح أنظمة التطبيع

إلى جانب الاشتباك العسكري، خاض اليمن معركة موازية لا تقل أهمية: معركة الوعي. فمنذ الأسابيع الأولى لإسناد غزة، تعاملت صنعاء مع الصراع بوصفه اختبارًا شاملًا للرواية السائدة في المنطقة، خصوصًا تلك التي تروّج لخطاب “الحياد” و”عدم التورط” باعتباره موقفًا عقلانيًا. في الخطاب الرسمي والإعلامي اليمني، جرى تفكيك هذا المفهوم باعتباره غطاءً سياسيًا للتواطؤ، لا موقفًا أخلاقيًا محايدًا، خصوصًا في ظل مشاهد الإبادة المفتوحة في غزة.

خطابات قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي شكّلت الإطار المركزي لهذه المعركة، حيث أكّد في أكثر من مناسبة أن الحياد في معركة بين ظالم ومظلوم انحيازٌ فعلي للظالم، وأن أخطر ما تواجهه الأمة ليس فقط التفوق العسكري للعدو، بل نجاحه في تعطيل إرادتها عبر الخوف والتطبيع وتزييف الوعي. هذا الخطاب لم يُطرح بوصفه نقدًا نظريًا، بل جاء متزامنًا مع وقائع ميدانية أثبتت أن كلفة الفعل، رغم جسامتها، أقل من كلفة الصمت والاستسلام.

عمليًا، ساهمت العمليات اليمنية في إرباك السردية الأمريكية الصهيونية التي سعت لحصر الحرب في غزة وعزلها عن محيطها الإقليمي. دخول اليمن على خط المواجهة، وما تبعه من اضطرار الولايات المتحدة إلى نشر قوات بحرية وإعلان تحالفات طارئة لحماية الملاحة، كشف أن “احتواء الصراع” لم يعد ممكنًا، وأن أي عدوان مفتوح يولّد بالضرورة ارتدادات إقليمية. هذا التحول فرض واقعًا جديدًا على الرأي العام العربي، ونسف مقولة أن الشعوب عاجزة أو أن كلفة الفعل أعلى من كلفة الصمت.

في المقابل، وُضعت أنظمة التطبيع في موقع حرج، بعدما ظهر التناقض الصارخ بين خطابها الرسمي ومشهد الميدان. فبينما كانت صنعاء تعلن صراحة استهداف المصالح الصهيونية دعمًا لغزة، استمرت عواصم مطبّعة في الحفاظ على علاقاتها السياسية والتجارية والأمنية مع الكيان، بل وفي بعض الحالات المشاركة في ترتيبات إقليمية لحماية مصالحه. هذا التباين تحوّل، بفعل الخطاب اليمني، إلى أداة فضح سياسي وأخلاقي، أعادت رسم خطوط الفرز داخل المنطقة.

الأهم أن معركة الوعي في الخطاب اليمني لم تكن موجهة للخارج فقط، بل ارتبطت مباشرة بالاستعداد للمعركة القادمة مع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. فقد جرى التأكيد مرارًا على أن المواجهة المقبلة لن تكون عسكرية فقط، بل اقتصادية وإعلامية ونفسية، وأن تحصين الجبهة الداخلية يبدأ بكسر أوهام الردع الأمريكي، وتفكيك ثقافة الخوف، وترسيخ قناعة أن السيادة تُنتزع ولا تُمنح. بهذا المعنى، قدّم اليمن نفسه كنموذج يرى في الوعي سلاحًا متقدمًا، لا مكمّلًا، ويعتبر أن كسب هذه الجبهة هو الشرط الضروري لأي انتصار قادم.

اليمن النموذج القرآني في الميدان والسيادة

في ضوء ما سبق، يتضح أن اليمن قدّم نموذجًا عمليًا فريدًا يجمع بين المرجعية القرآنية والقدرة على تحويل المبادئ إلى موقف سياسي وعسكري واقعي. من التفويض الشعبي الصادق إلى الاشتباك العسكري المباشر، ومن مواجهة خطاب الحياد وفضح أنظمة التطبيع إلى تحصين الوعي الوطني والإقليمي، رسمت صنعاء مسارًا متكاملًا يؤكد أن نصرة المظلوم ليست مجرد شعارات، بل واجب يُترجم إلى فعل ملموس على الأرض.

اليمن، من خلال هذا النموذج، يثبت أن الإرادة القرآنية قادرة على توجيه القرار، وفرض معادلات قوة جديدة، وإحداث تأثير استراتيجي حتى في أصعب الظروف. التجربة اليمنية تُعيد تعريف مفهوم السيادة والمواجهة، وتؤكد أن الصمود، والتخطيط، والوعي الجماعي يمكن أن يصنعوا معركة ناجحة على المستويين الميداني والفكري، مجسّدًا التقاء العقيدة بالقدرة العسكرية والسياسية في نموذج يحتذى به في المنطقة.

 

*نقلاً عن موقع 21 سبتمبر

التعليقات مغلقة.