«إف 35» مُقيَّدة للسعودية: تفوّق إسرائيل باقٍ… ولكن
صنعاء سيتي | صحافة
يبدو الخطاب الإسرائيلي، أكثر فأكثر، أسير ظاهرة المبالغة في التهويل، وتحويل الوقائع إلى أضعاف حجمها، سواء تعلَّق الأمر بإنجاز أو بفشل، وهو ما يرجع، على الأرجح، إلى رؤية عميقة الجذور، تضع إسرائيل في مركز الكون، وتجعل من أيّ تغيير في بنية العالم وأحداثه، مصدر قلق وجودي لها. ومن هذا المنطلق، لم يكد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يعلن نيّته بيعَ مقاتلات «إف-35» للسعودية، حتى انطلقت أصوات الإنذار في إسرائيل، والتي لم تكتفِ بتحليل المخاطر المحتملة، بل نحت إلى رسم سيناريوات كارثية، أقرب إلى تهديدات وجودية، لا مجرّد تعبير عن تجاوز التفوّق النوعي فحسب. والواقع أن ثمّة تغييراً بالفعل، وإنْ لا يزال نسبياً، في ظلّ اشتغال كلّ من واشنطن والرياض على إعادة تشكيل البنية الأمنية الإقليمية أو جزء منها، وفقاً لمحدّداتهما المشتركة، وهو مسار كان يجب أن تتوقّعه تل أبيب – التي لم تَعُد وحدها تحدّد المسارات الإقليمية – انطلاقاً من أنْ لا شيء يظلّ ثابتاً إلى ما لا نهاية.
على أنه ليست هذه هي المرّة الأولى التي تواجه فيها إسرائيل قراراً أميركياً بتسليح دولة عربية؛ ففي أواخر السبعينيات، أثار بيع مقاتلات «إف-15» و«إف-16» لكلّ من مصر والأردن – ولاحقاً السعودية – موجة «نقّ» سياسي وعسكري في تل أبيب، حيث وُصف القرار، آنذاك، بأنه «كارثة استراتيجية» و«نهاية للتفوّق الجوي»، مع أنه لم يكن كذلك. ويبدو الوضع اليوم مشابِهاً لما جرى آنذاك؛ إذ إن طائرات «إف-35» التي ستُزوَّد بها السعودية، لن تكون مطابِقة لتلك التي لدى إسرائيل، علماً أن نسخة «إف-35 آي» التي يسمّيها الجيش الإسرائيلي «أدير»، مُعدّلة ببرمجيّات إسرائيلية خاصة، ومرتبِطة مباشرة بمنظومة «العين الثالثة» الاستخبارية، وبالدرع الصاروخي العام. أيضاً، تظلّ واشنطن، من جهتها، ملتزِمة بـ«التفوّق العسكري النوعي» لتل أبيب، وإن بات عليها إعادة تعريف هذا التفوّق. وعليه، فإن الخطر، في حقيقته، ليس تقنيّاً، بل هو نفسي وسياسي بالدرجة الأولى، مرتبط بالخوف من فقدان الامتياز، لا من فقدان القدرة.
إسرائيل لم تَعُد قادرة، كما كانت عليه الحال في السابق، على فرض إرادتها، سواء على أعدائها أو حلفائها
يضاف إلى ما تقدّم، أنه على الرغم من تقارب السياقات، يبدو الوضع اليوم مختلِفاً عنه في السبعينيات، خصوصاً لناحية الظروف الداخلية الإسرائيلية؛ إذ إن الانقسام السياسي في الكيان أوسع وأعمق، والائتلاف الحكومي مُهدَّد داخلياً، وتحديداً من جناحَيه الرئيسَيْن: اليمين المتطرّف واليمين القومي الديني. كما أن إسرائيل أنهت حروبها الأخيرة، من دون أن تنهيها عمليّاً، في وقت لا تزال تصرّ فيه على رواية «الانتصار» الذي لا يجد على الأرض ما يترجمه؛ فلم تُهزم حركة «حماس» تماماً، ولم تُبنَ رؤية لـ«اليوم الذي يلي» في غزة، وفقاً لما تريده تل أبيب، وعلى الرغم من أن التطبيع مع السعودية جُمّد، فإن الأخيرة تجني الفائدة الاستراتيجية من ورائه، فيما التهديد الإيراني تأجّل من دون أن يُعالج جذريّاً. ولعلّ الأهمّ، أن إسرائيل لم تَعُد قادرة، كما كانت عليه الحال في السابق، على فرض إرادتها، سواء على أعدائها أو حلفائها، وفي مقدّمهم الراعي الأميركي، وهو ما يساهم في الدفع نحو تضخيم رواية التهديد المُحدِق بها.
وهكذا، وعلى رغم النجاحات التي حقّقتها إسرائيل، لا تزال التطوّرات تُشعِرها بالقلق، ولا سيما أنها لم تَعُد قادرة على تدوير الزوايا كما كانت تفعل سابقاً، فيما الولايات المتحدة، كعادتها دائماً، تنظر إلى المنطقة والعالم من منظار مصالحها، التي إذا تباينت مع ما تشخّصه إسرائيل، فإنها تعمل على تسوية التناقض، لا على حلّه لمصلحة تل أبيب وحدها. والجديد الآن أن الإدارة الحالية، بقيادة دونالد ترامب، تعطي الأولوية للإنجاز الدراماتيكي الآني على حساب النتائج الطويلة المدى، لأن المهمّ لديها (إلى جانب المصلحة العامة الأميركية)، ليس ما سيكون عليه الأمر بعد 10 سنوات، بل ما يمكن الإعلان عنه غداً في مؤتمر صحافي. وضمن هذا المنطق، فإن بيع مقاتلات لحليف استراتيجي كبير كالسعودية، يبدو «صفقة مربحة»، حتى لو دفعت إسرائيل إلى الاستياء.
إلّا أن التهديد الحقيقي على إسرائيل لا يكمن في بيْع واشنطن طائرات للرياض، بل في أن تل أبيب لا تزال تعتقد أن العالم سيتوقّف عن الدوران، إذا لم تُستشر في كل صفقة، ولم تُطَع بعد استشارتها. لكنّ الواقع يقول إن العالم يتغيّر؛ وإن على إسرائيل، إذا ما أرادت مواكبة هذا التغيير، أن تكيّف نفسها مع حقيقة أنها تتحوّل من «دولة» تحدّد الشروط، إلى شريك استراتيجي في مشروع إقليمي أوسع، يشمل شركاء كثراً، ليست هي إلّا واحداً من بينهم.
*يحيى دبوق: الاخبارية اللبنانية
التعليقات مغلقة.