اليمن يصنع تحولات لم يجرؤ عليها أحد
صنعاء سيتي | تقرير | وديع العبسي
وفق ما شهدت به معطيات المواجهة، ووفق شهادات المراقبين وخبراء السياسة والعمل العسكري، برز الإسناد اليمني لغزة ضد الغطرسة الصهيونية كانعطافة قلبت الموازين، وأحالت الكثير من مكونات المعادلات العسكرية بصيغتها التقليدية إلى الأرشيف.
لم يدخل اليمن معركة الإسناد عن فائض قوة أو عتادا، ولم يكن بمن يستمد عزيمته وإرادته وقوته من أطراف خارجية، كما أن ظروفه كانت تصرف عن الأذهان أي مستوى من التوقع بأن يكون له تأثير أو حضور في أي معركة مع قوى استعمارية نافذة.
لذلك لم يقف المتابعون كثيرا عند إعلان معركة “الفتح الموعود والجهاد المقدس” الإسنادية، ولا حتى عند العمليات الأولى للقوات المسلحة التي أمطرت فيها أم الرشراش المحتلة بوابل الصواريخ الباليستية والمجنحة والطائرات المسيرة، إلا أن الأمر لم يحتج أيضا لكثير من الوقت ليقف العالم على بواكير التحولات الجديدة التي يؤسس لها الشعب اليمني بوقفته الإسنادية، فما إن نجحت قواته البحرية بعملية احتجاز السفينة “الإسرائيلية” جالاكسي ليدر، حتى عاد المراقبون والخبراء مرة أخرى إلى عمليات الاستهداف الأولى لأم الرشراش، وقراءتها مع ما تبعها من العمليات بشكل مختلف، فاستدعى اهتمام وانتباه العالم وحتى النخب الفكرية داخل المنطقة العربية حدوث فعل لم يكن في وارد الحسابات والتوقعات أن يأتي من أقصى جنوب شبه الجزيرة، وهو إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة تجاه العدو، وضرب أهداف حيوية في الكيان المؤقت دون اعتبار لمخاوف قيامه بالرد.
كان الالتزام الديني وتوجيهات الله سبحانه وتعالى بوجوب نصرة المظلوم قاعدةَ العزيمة واتخاذ الموقف لدى اليمنيين للقيام بالمسؤولية في كسر غطرسة أعداء الأمة الذين استغلوا فرصة حالة الغفلة التي تعيشها، فاستضعفوا الفلسطينيين ليمارسوا وحشيتهم بقتل النساء والأطفال والمسنين في غزة. واستنادا إلى ذلك ظهر مجرد تنفيذ العمليات الإسنادية كعمل استراتيجي غيّر في طبيعة النظرة إلى الكيان المحتل، فأظهر حجمه الطبيعي كما هو: كيان هزيل يستمد قوته من تخويف الآخرين، وكسره لا يتطلب أكثر من الإيمان والإرادة.
أما في التفاصيل، فتباعا أخذ المراقبون يتعاملون مع الجبهة الإسنادية اليمنية بشكل مختلف بعد أن لامست عملياتها السمة الإعجازية في التنفيذ وتحقيق الأثر، وولدت تكتيكاتها الهجومية والدفاعية حالات إحباط صارت تخيم على تحرك العدو الإسرائيلي ودول الشيطان أمريكا وبريطانيا وفرنسا العدوانية ضد اليمن. فبدأ رصد مراكز البحث والتحليل على مستوى العالم يُراكم حقائق جديدة ومفاجئة، بعضها تُنهي عقودا من التصورات التي تهيئ لأمريكا كل ظروف الهيمنة والإرهاب بامتلاك السلاح والقدرة على شن معارك سريعة وخاطفة والانتصار فيها، وبعضها الآخر ينهى عُقدة الشعور بالضعف وهالة الكيان البعيد عن الاستهداف.
ولم تكن -في هذا السياق- العمليات اليمنية التي كانت تطال أي مكان داخل الكيان هي المثير فقط للنظر إلى اليمن بشكل آخر وبإنصاف، وإنما الحصار البحري الذي فرضه اليمن عليه مخترقا حدود كل التوقعات. فمِثل هذا الفعل اعتادت أمريكا و”إسرائيل” فرضه على الآخرين مدعوما بعمليات استباحة تزيد من تضخيم هالة العدو.
هاجرت السفن ميناء أم الرشراش، ثم ما لبث أن أعلن الميناء إفلاسه وخروجه عن الخدمة. هذا الأمر عاشه الكيان على يد القوات المسلحة اليمنية، ووثقته مراكز الرصد والمتابعة العالمية والتي لم تكن تخفي -أحيانا- مشاعر الدهشة والإعجاب.
أكد اليمن -بعد ذلك- أن حصار ملاحة العدو توجُّهٌ مدروس، ولم يكن مجرد محاولة، إذ أفشل كل محاولات خرقه، فأحرق سفنا وأغرقها، وأنهى أسطورة القوة البحرية الأمريكية الأولى على مستوى العالم، وحوّل حاملات الطائرات إلى كتل جامدة ثقيلة التفاعل والفاعلية، ما جعل المؤسسة العسكرية الأمريكية تضع خيار التخلص منها واحداً من متطلبات تحديث القوة البحرية.
وإلى ذلك هناك الحصار الجوي، فالعدو الإسرائيلي -الذي اعتاد استباحة الأجواء العربية بكل أريحية- لم يتصور يوما أن يخضع لتهديد على ملاحته الجوية يتسبب في انعدام ثقةِ كبرى شركات الطيران العالمية في قدرته على تأمين مطاراته من القصف اليمني، ويرتفع منسوب انعدام ثقة هذه الشركات اليوم باستمرار ترددها عن تسيير رحلاتها إلى الكيان حتى بعد الاتفاق المزعوم بوقف إطلاق النار في غزة. تكشف “القناة 12” العبرية بإن العديد من شركات الطيران تواصل إلغاء الرحلات إلى يافا المحتلة ما يسمى بـ“تل أبيب”، وأشارت القناة إلى أن بعض هذه الشركات ستنتظر لترى ما إذا كان الهدوء في المنطقة سيستمر، وأخرى ستعيد تسيير الرحلات فقط في الصيف، في الوقت الذي تؤكد فيه شركات أنها ربما لن تعود إطلاقا لرحلاتها إلى الكيان الصهيوني.
يؤكد موقع “اكسيوس” الأمريكي أن ما جرى خلال العامين الماضيين من الصمود والمواجهة لفت الأنظار إلى اليمن بكونه قوة إقليمية مؤثرة. وأشار الموقع إلى أن اليمنيين صمدوا أمام حملة جوية شرسة وطويلة قادتها الولايات المتحدة بمشاركة الكيان الصهيوني، وكشفوا عجز القوة الأمريكية عن تحقيق أي من أهدافها، كما أثبتوا قدرة فائقة على إرباك التحالف الأمريكي “الإسرائيلي” رغم الفارق الكبير في القدرات التسليحية.
وما يعزز واقعية الطرح بأن أمريكا وجدت في اليمن نِدّا قويا وقادرا على توجيه المواجهة عكس طموحاتها، اختزله إقرار الدوائر العسكرية في واشنطن و”تل ابيب” بالفشل في التأثير على الجبهة اليمنية وإجبارها على التوقف عن دعم الشعب الفلسطيني.
تقرير الموقع الأمريكي أكد أيضا أن مجريات المواجهة مع اليمن أثبتت أن القوات اليمنية “تمتلك من الإرادة والتكتيك والخبرة ما يجعلها قوة صاعدة في معادلة الصراع الإقليمي.”، مشيرا إلى أنها اعتمدت على استراتيجية المرونة الميدانية، والاستفادة من نقاط ضعف العدو.
تحول استراتيجي آخر خلق وضعا جديدا غير متوقع، وهو المتمثل بإعادة الهوية العربية إلى البحر الأحمر وخليج عدن. فبعد أن كانت بحار المنطقة تحت الهيمنة الأمريكية المطلقة، أصبح مألوفا اليوم أن تغيب القطع الأمريكية عن البحر الأحمر.
وحين حاولت واشنطن تحريك قدراتها لاستعادة حضورها، ضخّمت من عزمها على التحرك لفرض إرادتها على اليمن وفك الحصار عن “إسرائيل”، فأسمعت كل العالم بذلك ضمن سياسة الإرهاب التي اعتادت عليها لخلق حالة ارتداع نفسي تُسهّل لها تحقيق الانتصار. لهذا لم يكن العالم يشك في قدرة أمريكا على الوصول لهدفها، إلا أن هروبها بعد أسابيع قليلة فقط من المواجهة مع القوات اليمنية، وتنازلها عن حماية ملاحة العدو الصهيوني، خدش تلك الهالة، وبدد دخانها، وفرَض حقيقة جديدة هي أن القوة الأمريكية إنما تعتمد -في جزء كبير منها- على الدعاية والتهويل والتضخيم.
من التحولات الاستراتيجية -أيضا- التي قاد إليها اليمن -بعملياته الاستثنائية- ما شهده العالم من تباكي الكيان ومحاولاته استثارة المشاعر من جهة، وتحريضه الآخرين ضد اليمن من جهة أخرى، حين تقدم بشكوى إلى مجلس الأمن يلتمس فيها تحرك المجتمع الدولي لفك الحصار اليمني عنه. وهي الشكوى التي لقيت موجة ردود وتعليقات متعجبة وساخرة.
ووفق ما ترسخ لدى كل العالم كان الآخرون هم من يتقدمون بالشكوى ضد الكيان الإسرائيلي، ولم يحدث العكس يوما، ما يؤكد حجم التحوّل الذي أحدثه اليمن بموقفه الإسنادي.
لا يقف الأمر عند هذا الحد، فإثبات الجديّة والنديّة ترجَمهُ اليمن -أيضا- بفرض عقوبات على عدد من شركات النفط الأمريكية الكبرى، بما في ذلك عملاقا الطاقة “إكسون موبيل” و”شيفرون”، باعتبارها متعاونة مع الكيان الصهيوني، ويأتي في سياق قرار الحظر اليمني على “اسرائيل”. وقد كان وقع إعلان العقوبات اليمنية مفاجئا بشكل جعل البعض يذهب -بتحليله- إلى التأكيد بأن العالم -بالفعل- يشهد تحولا جديدا، وأن ما يجري حاليا من شيطنة أمريكية هنا وهناك ما هي إلا محاولات لفت انتباه لغرض الحفاظ على مكان الصدارة الذي بات يهتز بقوة. تؤكد مجلة “سيناري إيكونوميك“ الإيطالية أن ما يجري هو تحول أكيد، لم يشهد العالم -من قبل- أن تتعرض أمريكا لمثل هذا الاستهداف الجريء بأن تفرض دولة عربية عقوباتٍ على كبرى شركاتها النفطية.
*نقلاً عن موقع أنصار الله
التعليقات مغلقة.