منذ أكثر من 1400 سنة نعلم جيدا أن اليهود ناقضون للعهود, والأمر ليس جديداً لا علينا ولا عليهم. قد يستغل أحدٌ هذه المقدمة ليسأل مباشرةً: لماذا -إذا- قبلت حركة حماس وفصائل المقاومة وقف اطلاق النار في غزة وهم يعلمون هذه الحقيقة؟ وقد يبادر آخر ليجيب: إن حماس وفصائل المقاومة أخطأت عندما سلمت كل الأسرى, وكان يفترض أن تحتفظ ببعضهم كضمانات.

طبعا هذا الكلام غير صحيح مطلقا, وما قامت به المقاومة هو القرار الصحيح -دينيا ووطنيا وسياسيا وعسكريا واقتصاديا. لماذا؟

أولا: لأن الله الذي قال: “أوَكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم”. والذي قال: “لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا”, والذي ذكر آيات كثيرة عن مكر اليهود وخبثهم وغيره, هو ذاته تعالى الذي قال في سورة الأنفال بعد آية (وأعدوا…) قال في الآيات التالية مباشرة “وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم”, ثم قال بعدها مباشرة “وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين”.

إذاً هو تأكيد من الله سبحانه أن الإسلام دين سلام مع علمه تعالى بمكر اليهود. كما أنه يقول -صراحةً- إن إمكانية الخداع واردة, ومع ذلك أمرَنا بالجنوح للسلام.. لكنه اختتم هذا الأمر بالتطمين “…. فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين”. هذه هي الضمانة الحقيقية التي جاءت من الخالق العليم الحكيم, وليست الضمانة باحتجاز أسرى. كما أن نتنياهو -نفسه- قتل ما يقارب 20 من أسرى 7 أكتوبر, وكان مستعدا لقتل البقية.

ثانياً وللتذكير: عملية طوفان الأقصى حين نفذها المجاهدون كان هدفها الرئيس -وربما الوحيد- أسر عدد كبير من الجنود الصهاينة ليبادلوا بهم أسرى فلسطينيين في معتقلات العدو لعشرات السنين. وهذا الهدف بالفعل تحقق بإطلاق 250 أسيراً فلسطينياً كانوا محكومين مؤبدات.. إضافة إلى 1700 تم اعتقالهم بعد 7 أكتوبر 2023. إذاً تحقق هدف 7 أكتوبر للمجاهدين, ولم يتحقق لنتنياهو أي هدف من أهدافه (استعادة الأسرى بالقوة – القضاء على حماس وتدمير بنيتها التحتية – نزع سلاح المقاومة – وأخيرا تهجير سكان غزة). لم يتحقق أي هدف من هذه الأهداف. إذاً حماس وافقت على هذا البند -فقط- كما ورد في الخطة وبدون أي تعديلات لأنه هدفها, وقد تحقق.

ثالثا: ومن يقول إن المقاومة وافقت على (خطة ترامب), وبالتالي على تسليم سلاحها, فهو غبي مع كل احترامي, لأنه تماشى مع رواية الإعلام الصهيوني والمتصيهن. لأن حماس حين سلمت ردها على خطة الرئيس الأمريكي, وبعدها -مباشرة- أعلن ترامب وقف إطلاق النار.. فهذا يعني أن ترامب هو من وافق على الرد المتضمن تعديلات على خطته, وليس العكس. لكن المطبخ الإعلامي الصهيوني اشتغل على عكس الصورة التي يريدها هو لتحقيق نصر إعلامي للكيان المؤقت, وللأسف تماشى معه كثير من الإعلاميين المحسوبين على محور المقاومة.. مع علمهم بالقاعدة التي تقول: (ما لم يأخذه العدو بالسلاح لن يأخذه بالمفاوضات).

رابعا: تحدث رد حماس وفصائل المقاومة عن ضرورة استكمال اللقاءات والمشاورات بين جميع المكونات الفلسطينية -بدون أي تدخل خارجي- للاتفاق على شكل إدارة قطاع غزة. وللتذكير فهذا الموضوع طرحته حماس في لقاءات سابقة في بيروت 2017 والقاهرة في 2022, وغيرها, شملت حركة فتح وباقي الفصائل. أي أن حماس لا تريد -بأي حال- الانفراد بإدارة القطاع. وللتذكير -أيضا- فإن حماس وجدت نفسها مضطرة في 2005 لهذا الانفراد بعد أن رفض محمود عباس (رئيس السلطة الفلسطينية) نتائج الانتخابات النيابية التي أفضت -في حينه- إلى فوز حركة حماس بالأغلبية, وصار حينها الشهيد اسماعيل هنية رئيسا للوزراء في الدولة الفلسطينية كلها. ولكن, ولأن عباس -بإملاءات صهيونية وأمريكية- رفض الاعتراف بنتائج الانتخابات, اضطرت حماس للانفراد بإدارة قطاع غزة, ومنذ 2005 إلى اليوم فُرض على القطاع حصار اقتصادي ومحاولة عزله سياسيا, ومع ذلك لم يستسلم, وخرج اليوم منتصرا.

ولمن يستغرب قولنا بأن المقاومة انتصرت بعد كل هذا الدمار و65 ألف شهيد نؤكد: نعم انتصرت المقاومة.. فمقاييس النصر والهزيمة في الحروب تُبنى على تحقيق الأهداف من عدمه, وقد ذكرنا في ما سبق من الذي حقق أهدافه ومن الذي لم يحقق.

خامسا وبالعودة إلى “نزع السلاح”: لم يَرِدْ هذا الموضوع لا في رد المقاومة على الخطة ولا في تصريحات أي من قادتها, سوى كلام مقتضب لأسامة حمدان (مدير مكتب حماس في بيروت) الذي أفاد أن المقاومة أوردت في ردها أنها منفتحة على التشاور مع كل المكونات الفلسطينية لكيفية إدارة الدولة في القطاع من خلال حكومة تكنوقراط متفق عليها, وسلاح المقاومة هو سلاح الدولة. فقط ولم يصدر أي تصريح آخر من حماس وبقية الفصائل عن السلاح.

أخيرا: بالعودة إلى خطاب قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي يوم الخميس بتاريخ 2 أكتوبر 2025, أي قبل يوم واحد فقط من تسليم حماس ردها على خطة ترامب- قال السيد القائد: “الشعب الفلسطيني هو شعب حر، فصائله المجاهدة بكلها هي تتخذ قراراتها متمسكة بالثوابت والحقوق المشروعة والأصيلة للشعب الفلسطيني. المساعي الأمريكية والإسرائيلية هي أن يكون الشعب الفلسطيني ومقاومته ومجاهدوه بفصائلهم مخيرين ما بين إما الاستكمال للإبادة والاحتلال أو الاستسلام. تحت عنوان أن حركة حماس والحركات الفلسطينية لم تقبل بخطة السلام يتم الخداع الأمريكي. إخوتنا المجاهدون في فلسطين يتمسكون بثوابتهم وبالحقوق الثابتة بالقضية العادلة للشعب الفلسطيني. الردود من الفصائل الفلسطينية تأتي ضمن خطوات حكيمة  لتنزع عن العدو أساليبه الالتفافية والمخادعة. ما يهمنا هو أن لا يتحول العرب وبعض الأنظمة الإسلامية إلى أداة ضغط على الفصائل الفلسطينية, بل ينبغي الوقوف معهم. ينبغي الوقوف مع الفصائل الفلسطينية لكشف الخداع الأمريكي والإسرائيلي, وللتأكيد على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني والتمسك بالثوابت التي لا ينبغي التفريط بها”.

وبالفعل كان رد حماس ذكيا وقويا. ومن يظن أن “إسرائيل” اخترقت وقف إطلاق النار اليوم, فهو لم يدرك أنها تخترق الاتفاق منذ اليوم الأول. ومع ذلك نؤكد “وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين”.