العرب: من الاحتلال التقليدي إلى الاحتلال السياسي
صنعاء سيتي | مقالات | أحلام الصوفي
منذ مطلع القرن الماضي، كانت الجيوش الغربية تجوب أوطان العرب تحت رايات استعمارية مكشوفة، جاثمة فوق الأرض، مصادرة للقرار، ومتحكمة بالثروات. الاستعمار حينها كان واضح الملامح، ظاهر البطش، لا يخجل من فرض سطوته عبر فوهات البنادق وبوارج الجيوش. لكنه، رغم شدته، أنتج حركة تحرر حقيقية، استنهضت الشعوب وأيقظت الضمير الجمعي المقاوم، فاندلعت الثورات وسقطت الإمبراطوريات، وانسحبت الجيوش… لكن هل خرج الاحتلال فعلًا؟
الواقع يُثبت أن الاحتلال لم يغادر، بل غيَّر شكله. خرج بجيوشه، وعاد بسفرائه. خرج بمدرعاته، وعاد بصناديق الاقتراع المُسيَّرة، وعبر من بوابة الاستعمار السياسي، تمثَّل في أنظمة حكم مُدجَّنة، تحكم بأجندة الخارج، وتُدير شعوبها بمنطق الوكيل المحلي لقوى الهيمنة.
الأنظمة التي جاءت بعد الاستعمار العسكري، لم تبنِ مشروعًا عربيًا مستقلًا، بل سارعت لإرضاء المراكز الغربية، مقابل البقاء في السلطة. فكان الاحتلال السياسي أكثر خبثًا، وأشد فتكًا، إذ صادر القرار، ومارس تغريبًا ثقافيًا، وسحق فكرة الاستقلال الذاتي من أساسها.
بالتوازي مع هذا الواقع العربي المُثقل بالهيمنة السياسية، برزت اليمن كنموذج فريد لمسار مختلف، وشقَّت طريقًا استثنائيًا في التحرر من الوصاية الخارجية، لتكتب فصلًا جديدًا في تاريخ الكفاح العربي. كانت ثورة 21 سبتمبر لحظة فارقة، لا فقط في السياق اليمني، بل في ميزان الصراع الإقليمي والدولي.
ففي الوقت الذي كان فيه كثير من الأنظمة قد سلَّمت قرارها لعواصم الخارج، خرج اليمنيون ليكسروا القيد، ويسحبوا البساط من تحت أدوات الوصاية التي ظلت لعقود تتحكم بمصير البلاد من خلف الستار. لم تكن الثورة ضد نظام سياسي فقط، بل ضد نظام كامل من التبعية، والارتهان، والاستلاب. ومنذ اللحظة الأولى، أعلنت صنعاء أن زمن الإملاءات قد انتهى، وأن اليمن ماضٍ نحو بناء قرار مستقل، وسيادة مكتملة الأركان.
ثورة 21 سبتمبر لم ترفع شعارات وهمية، بل قدَّمت نموذجًا عمليًا في التحرر الحقيقي، فرفضت التدخلات، وأسقطت أدواتها، وواجهت حصارًا وعدوانًا كانا – ولا يزالان – جزءًا من محاولة إعادة اليمن إلى بيت الطاعة الدولي. لكن الشعب الذي قال كلمته في سبتمبر، صمد رغم كل شيء، بل واستطاع أن يحوِّل المحنة إلى فرصة، يبني خلالها قدراته العسكرية والسياسية والاقتصادية.
وفي حين غرقت بعض العواصم العربية في تحالفات التطبيع والارتهان، وقفت صنعاء في طليعة الجبهات المدافعة عن قضايا الأمة، وعلى رأسها فلسطين. فتحوَّلت من بلد كان يُنظر إليه كضعيف أو مهمَّش، إلى رقم إقليمي فاعل، يُحسب له ألف حساب.
وبفضل القيادة الحكيمة، ممثلة بالسيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، استطاع الشعب اليمني أن يحوِّل ثورته من مجرد انتفاضة شعبية إلى مشروع تحرري متكامل. قيادة اتسمت بالحكمة والبصيرة والثبات، رسمت ملامح المرحلة الجديدة بثقة، وحددت الأولويات، وواجهت التحديات الداخلية والخارجية بعقلانية وصلابة عزَّ نظيرها.
تحت هذه القيادة، لم يكن التحرر مجرد موقف عاطفي، بل رؤية استراتيجية لبناء دولة مستقلة، تتخذ قرارها السيادي دون وصاية، وتدير مواردها وفق مصالح شعبها، وتعيد صياغة دورها في المنطقة من منطلق القوة والمسؤولية.
وكانت مواقف السيد القائد واضحة لا لبس فيها: لا للتبعية، لا للوصاية، لا للهيمنة. وهي مواقف ترجمتها الوقائع، بدءًا من إسقاط مشاريع الهيمنة داخل اليمن، وصولًا إلى الانخراط الفاعل والمشرف في معركة الأمة الكبرى في وجه العدو الصهيوني.
وفي ظل هذا النهج، أصبحت صنعاء قبلة الأحرار، وصوتًا قويًا في وجه مشاريع التطبيع، ومثالًا يُحتذى لكل الشعوب التواقة للحرية. لقد أثبتت التجربة اليمنية، بقيادة حكيمة ومشروع تحرري واعٍ، أن العرب قادرون على استعادة سيادتهم، متى ما امتلكوا الإرادة والقيادة المؤمنة بشعوبها وبحقها في التحرر والكرامة.
التعليقات مغلقة.