اليمن.. القوة التي وُلدت من تحت الحصار
صنعاء سيتي | تقرير | علي الدرواني
في زمن باتت فيه حسابات النظام العالمي القائم تقاس بمدى الطاعة لا بأحقية الموقف، وبالولاء لساكن البيت الأبيض لا بالشجاعة على قول الحق، جاءت المشاركة اليمنية غير المتوقعة في إسناد غزة كإعلان مدو عن ولادة قوة عربية وإسلامية حقيقية، اسمها اليمن.
لم تكن هذه المشاركة مجرد خطاب عاطفي أو بيان تضامني عابر، بل كانت تحركا مركبا عسكريا وسياسيا واستراتيجيا، جاء من تحت الركام، ومن قلب الحصار، ليعيد رسم ملامح الاشتباك مع العدو الإسرائيلي، ويربك حسابات القوى الكبرى.
اليمن، الذي لطالما وصف بأنه “الخاصرة الضعيفة” في شبه الجزيرة العربية، أو الحديقة الخلفية للمملكة السعودية، هاهو يخرج من عزلة الحرب العدوانية والحصار الاقتصادي والسياسي، ليفاجئ العالم بتحول استراتيجي غير مسبوق. فعلى مدى أكثر من 19 شهرًا، كانت الضربات اليمنية الموجهة ضد السفن المرتبطة بـ”إسرائيل” في البحر الأحمر، والخليج العربي، تمثل تحولًا نوعيًا في قواعد الاشتباك.
لقد توقفت الملاحة الإسرائيلية كليًا في البحر الأحمر، وهو أحد أعصُبِ التجارة العالمية. واضطرت شركات النقل البحري الكبرى إلى إعادة رسم خرائطها البحرية، ورفعت تكلفة التأمين على السفن لمستويات غير مسبوقة. وجدت واشنطن نفسها مضطرة للتدخل عسكريًا، في معركة اختارت أن تكون خاطفة ومركزة لإنقاذ طفلها المدلل “إسرائيل”، لتواجه سلاحًا ليس بحداثة تكنولوجيتها، بل بثقل إيمانه وإصراره وصموده.
ما فعله اليمن لم يكن مجرد إطلاق صواريخ أو طائرات مسيّرة، بل كانت رحلة بناء لهيبة جديدة في الوعي الجمعي العربي، مفادها أن الجغرافيا لا تحدد موقع القوة، والمال لا يصنع النفوذ، والنفط لا يجلب المريدين، بل هي الإرادة من تصنع كل ذلك.. أن يكون اليمن -المحاصر، الفقير، الممزق- هو من يقود جبهة دعم غزة في بحر تتحكم به الأساطيل العالمية، فهذا في حد ذاته كسر للمفهوم التقليدي للقوة.
لقد تحولت صنعاء إلى مركز قرار حر، غير خاضع للإملاءات، يفرض كلمته من ميدان الصراع، لا من طاولات التفاوض. وأصبحت الرسالة واضحة: إذا كان العدو الإسرائيلي لا يفهم إلا لغة القوة، فاليمن اليوم هو من يجيد نطق هذه اللغة.
داخل الكيان الصهيوني، أصبحت كلمات مثل “باب المندب” و”البحر الأحمر” تُثير الذعر. فالسفن التي كانت تعبر آمنة لعقود، باتت هدفا مستباحا، ليس بقرار قوة عالمية كبرى، بل بإرادة شعب اختار أن يكون جزءًا من معادلة الردع، استجابة لله ورسوله، وداعي الاستغاثة من إخوة مستضعفين، تكالب عليهم الغرب، وتخاذل عنهم العرب.
وطوال مدة الإسناد بات مشهد الهروب إلى الملاجئ ممتدا ليشمل كل رقعة في فلسطين المحتلة، يشعر فيها العدو أن هناك من يتقن التصويب، ويختار التوقيت، ويبادر إلى الفعل، ولا يتأخر عن الرد.
الرسالة اليمنية للعالم هي ان القوة لا تُكتسب من تعدد القواعد العسكرية، ولا من مخرجات مراكز الأبحاث ومختبرات التصنيع الغربية، بل من قوة الموقف، وأحقية القضية، وبما تفعله وقت الشدائد، وتقول إن الحصار مهما طال ومهما كان خانقا، فإنه لا يولد الاستسلام دائما، بل قد يولد قوى غير محسوبة على خرائط التحالفات، فهذا شعب جريح، لكنه مؤمن، يعاني من انقطاع المرتبات، وتدمير البنى التحتية، وسنوات من العدوان والحصار، لكنه صامد، خرج ليربك حسابات أعتى القوى العالمية.
أعطوا اليمن فرصة ليرتقي لا ليركع، وبالمحصلة فإن اليمن اليوم لم يعد الهامش الذي تكتب عليه ملاحظات اللقاءات الخليجية، أو توصيات المؤتمرات العالمية، بل بات نصًا مكتملًا في معادلة الصراع الإقليمي، هو قوة عربية صاعدة، ولدت من رماد الحرب، وتشبعت بإرادة لا تعرف الانحناء، بعد أن منحه الله قائدا، رضع الإيمان، كما يرضع الطفل حليب أمه، وأتقن فن الشجاعة، كما يتقن الفارس ملاعبة الأسنة على ظهور الخيل وفي ميدان المعركة الملتحمة.
أعطُوا اليمن فرصةً لا ليركع أو يتراجع، بل ليتنفس، ليحيا، وليصنع تاريخه بيديه، لا بأموالكم التي كنتم ترمونها لحكامه المنبطحين، كما ترمى العظمة لكلاب الحراسة، أعطُوا اليمن فرصةً ليلبسكم ثوبا من العزة، وينفض عنكم ما تراكم من غبار الذلة، فالتاريخ لا يكتب على طاولة النخاسة، بل في ميدان المنازلة، وعلى أرض يعرف أهلها أن السيادة لا تُمنح، بل تُنتزع.
*نقلاً عن موقع أنصار الله
التعليقات مغلقة.