استراتيجيات الصراع قبل وبعد العدوان على إيران
صنعاء سيتي| تحليل | أنس القاضي
شكّل عدوان الاثني عشر يوماً محطة فارقة في مسار الصراع بين إيران والكيان الصهيوني، حيث كشف عن عمق الاختلالات في التوازنات الإقليمية، وأعاد صياغة استراتيجيات الأطراف المعنية وتعديلها بما يتناسب مع الوضع الجديد، فقد كانت الحرب بمثابة اختبار استراتيجي لكثير من الاستراتيجيات والتصورات السياسية والعسكرية السائدة في المنطقة، ما يجعلنا نقول إن هذه الحرب المحدودة زمنياً غيرت بشكل عميق جداً في الاستراتيجيات والتصورات لدى كل من إيران والكيان الصهيوني.
1. الاستراتيجية الإيرانية ومحور المقاومة
أ. الردع بالغموض النووي والتعاون مع المنظمات الدولية:
اتبعت إيران سياسة “الحافة النووية”، عبر رفع مستويات التخصيب دون إعلان نية امتلاك سلاح نووي، لتوليد شكوك رادعة لدى خصومها، كما تعاونت بشكل كبير مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي يُفترض أن توفر غطاء من الحماية الأممية للمنشآت النووية. هذه المقاربة وظفت كأداة تفاوضية، وكآلية لمنع هجوم استباقي شامل، من خلال تعظيم تكلفة أي مغامرة عسكرية إسرائيلية أو أمريكية.
ب. الردع غير المتناظر بالصواريخ والمسيرات:
استثمرت إيران في تطوير قدرات صاروخية وبناء برنامج واسع للمسيّرات، ما منحها أداة ردع غير متماثلة منخفضة الكلفة وفعالة ضد الأهداف الاستراتيجية. كما كرست مبدأ “وحدة الساحات” عبر تسليح وتدريب حلفاء إقليميين لخلق شبكة متعددة الجبهات تفرض على الكيان التفكير في كلفة أي تصعيد.
ج. سياسة التهدئة والانفتاح الإقليمي:
سعت إيران قبل العدوان الأخير، ومنذ زمن الرئيس الشهيد ابراهيم رئيسي، إلى خفض التصعيد مع دول الخليج، خاصة السعودية والإمارات، من خلال اتفاقات تهدئة برعاية صينية. اعتمدت وساطات عمانية وقطرية لتبريد الملفات الأمنية، وتقليل احتمالات تنسيق خليجي–إسرائيلي ضدها، واتجهت نحو الانفتاح على مصر والأردن واستعادة العلاقات الدبلوماسية.
د. الرهان على تعددية الأقطاب:
بالتوازي مع الانفتاح الإقليمي، طورت إيران علاقات استراتيجية مع روسيا والصين، مستفيدة من تحول النظام الدولي نحو التعددية القطبية، لتعويض العقوبات الغربية، وتأمين مصادر للتكنولوجيا العسكرية والدعم الدبلوماسي.
2. الاستراتيجية الإسرائيلية والتحالفات الإقليمية
أ. العقيدة الاستباقية:
اعتمدت “إسرائيل” منذ اغتصابها الأرض الفلسطينية على مبدأ الضربة الاستباقية كعقيدة ثابتة لإحباط أي تهديد تعده وجودياً. وتجاه إيران تجسد هذا المبدأ في استهداف العلماء والمنشآت النووية، والتخطيط لضربات دقيقة تعطل قدرتها على امتلاك خيار نووي. وهو المبدأ الذي وجهته سابقاً ضد البرامج النووية في العراق وسوريا وضد سلاح الجو المصري.
ب. استراتيجية الردع الفاعل:
نفذ الكيان الصهيوني عمليات اغتيال وهجمات سيبرانية وتفجيرات سرية في الداخل الإيراني، وضربات متكررة في سوريا ولبنان وبدرجة أقل في العراق، هدف هذه الاستراتيجية إبقاء إيران في موقع دفاعي دائم، وإظهار عجزها عن بناء قدرة ردع متكافئة.
ج. بناء التحالفات الإقليمية:
دعم الكيان الصهيوني “اتفاقيات إبراهام” مع الإمارات والبحرين والمغرب، لتوسيع شبكة التعاون الأمني والاستخباراتي ضد إيران. كما سعى إلى تطوير نظام دفاع جوي إقليمي مشترك برعاية أمريكية.
د. الاعتماد على المظلة الأمريكية:
اعتبر الكيان الصهيوني أن الولايات المتحدة هي الضامن النهائي لأمنه، وراهن على الدعم العسكري والاستخباراتي والسياسي الواسع، وعلى التزام واشنطن بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي.
3. التوازنات الإقليمية قبل الحرب:
قبل الحرب، ساد توازن هش في الإقليم:
- اعتمد الكيان الصهيوني على تفوقه العسكري والاستخباراتي، مدعوما من واشنطن.
- راهنت إيران على الردع بالغموض النووي، وقدرات الصواريخ والمسيرات، وعلى الحصانة الأمنية المتصورة، وعلى الحلفاء في محور المقاومة (الذي ضعف في لبنان، وسقط في سوريا، وقيد سياسيا في العراق، واُنهك في غزة).
- مسار التهدئة الخليجية خفف من احتمالات المواجهة الشاملة، لكن بقيت جذور التوتر الإقليمية قائمة، بانتظار شرارة تشعلها.
1. التحولات في الاستراتيجية الإيرانية
أ. انكشاف الغموض النووي:
الضربات الصهيونية والأمريكية العدوانية ضد إيران، وعمليات الاغتيال، والاختراقات الأمنية، كشفت عن قدرات إيران النووية وثغراتها الأمنية، ما أضعف فاعلية الغموض النووي كآلية ردع، كما كشف أن التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يعطِ منشآتها حماية أممية، هذا التطور فتح نقاشاً داخلياً إيرانياً حول جدوى الاستمرار في سياسة “الحافة”، وإمكانية الانتقال إلى إعلان امتلاك خيار نووي صريح، أو على الأقل تطويره سراً.
ب. تعزيز الردع الصاروخي والمسيرات:
أظهرت الحرب أن القدرة الصاروخية والمسيّرات كانت الأداة الأكثر تأثيراً في فرض تكلفة عالية على “إسرائيل”، وأجبرتها على القبول بوقف إطلاق النار. وسيدفع ذلك إيران إلى التركيز على زيادة دقة الصواريخ، تنويع رؤوسها الحربية، وتوسيع قدرات إنتاج المسيرات، مع تعزيز نقل هذه التقنيات إلى الحلفاء الإقليميين. بوصفها سلاح الردع.
ج. إصلاح المنظومات الأمنية والاستخباراتية:
كشفت الحرب مدى التغلغل الاستخباراتي الإسرائيلي داخل إيران، وسيدفع ذلك إلى إعادة هيكلة أجهزة الأمن، تشديد الرقابة على الاختراقات السيبرانية، وسن قوانين جديدة لمكافحة التجسس، مع الاستثمار في الأمن السيبراني المحلي، وتقييد الاعتماد على شبكات مثل “ستارلينك” وشركات التكنلوجيا المشبوهة.
د. مراجعة التهدئة الإقليمية:
رغم استمرار الحوار مع السعودية والإمارات، فقد أظهرت الحرب هشاشة سياسة التهدئة، وأدركت إيران أن دول الخليج قد تكون مسرحاً أو قاعدة للعمليات ضدها في أي وقت، ما يفرض عليها تطوير استراتيجيات ردع إقليمية أكثر عملية، إلى جانب المسار الدبلوماسي، وتعزيز العلاقات الأمنية مع روسيا والصين.
هـ. عودة مفهوم وحدة الساحات:
عززت الحرب أهمية مبدأ الردع متعدد الجبهات، ومفهوم وحدة الساحات، مؤكدة لإيران أهمية الحلفاء الإقليميين، واكتسبت الجبهة اليمنية في البحر الأحمر أهمية جيوسياسية خاصة. من المحتمل أن تزيد إيران مستقبلاً مستويات التنسيق مع حزب الله والحشد الشعبي وفصائل في سوريا لإعادة بناء القوى المقاومة الحليفة في هذه البلدان.
وتدرك إيران أن العدوان المباشر عليها لم يأتِ إلا بعد الضربات على حلفائها، وهذا سيجعلها تفكير جدياً بإعادة بناء سياج الحلفاء الإقليميين الذي يطوق الكيان والقواعد الأمريكية في المنطقة.
2. التحولات في الاستراتيجية الإسرائيلية وتحالفاتها
أ. اختبار العقيدة الاستباقية:
رغم النجاح في توجيه ضربات مؤثرة إلى البرنامج النووي الإيراني وعلى النخبة العسكرية والعلمائية، فشل الكيان الصهيوني في منع الرد الإيراني. أظهرت الحرب أن العقيدة الاستباقية وحدها غير كافية لشل قدرات الردع الإيرانية أو تغيير النظام السياسي في طهران، فالانتصار منذ الضربة الأولى كالذي حدث في نكسة 1967م أو في ضربة الناتو على النظام الليبي، لم يعد ممكن التطبيق.
ب. اهتزاز استراتيجية الردع:
تعرضت “إسرائيل” لقصف صاروخي ومسيرات كثيفة ودقيقة على عمقها الاستراتيجي، وأظهرت الصور المسربة أضرارا فادحة، ما كشف ضعفاً في دفاعاتها الجوية، وعجزاً عن تأمين المستوطنين الغاصبين، فاضطرت ما تسمى “الحكومة” الإسرائيلية لإغلاق أجوائها وإجلاء المدنيين من بعض المناطق، ما أدى إلى نقاش داخلي حول جهوزية “الجبهة الداخلية”، وقدرة الكيان الصهيوني على تحمل حرب متعددة الجبهات، وحرب من الوزن الثقيل مع إيران في عمقها، وهي الحرب الأولى من نوعها منذ نكبة 1948م.
ج. ازدياد الاعتماد على الولايات المتحدة:
لم تتمكن “إسرائيل” من حسم الحرب بمفردها، وألحت في طلب تدخل أمريكي مباشر، أعاد هذا تأكيد الطابع العميق لعلاقتها الأمنية مع واشنطن، وقلل من قدرتها على فرض شروطها بشكل مستقل في مواجهة إيران، وخلق حالة إرباك حول العلاقة الأمنية مع الولايات المتحدة، حيث ظهرت أصوات تدعو إلى الاعتماد على الذات، خصوصاً بعد الاتفاق المبرم بين صنعاء وواشنطن بوقف إطلاق النار كلٌّ ضد الآخر في البحر الأحمر مع استمرار الإسناد اليمني لغزة ضد الكيان.
د. تحالفات التطبيع:
تعاونت دول الخليج استخباراتيا مع العدو الصهيوني، ورغم ذلك فقد أعلنت إدانة حذرة للعدوان الإسرائيلي الأمريكي.
إذاً فقد أظهرت هذه الحرب حدود “اتفاقيات إبراهام” التطبيعية كتحالفات دفاعية عملية، وأثارت أسئلة حول قدرتها على توفير مظلة أمنية فعالة ضد إيران، خصوصاً وأن الكيان يرى أن تشكيل ناتو صهيوني عربي هو الخيار المستقبلي مع الانحسار الأمريكي من المنطقة.
3. إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية:
أ. نشوء توازن ردع متبادل:
انتهت الحرب بتوازن جديد يقوم على الردع المتبادل، فالكيان الصهيوني الذي ظن أنه قادر على إلحاق أضرار كبيرة بإيران، لم يستطع منع إيران من رد مكلف في العمق المحتل، هذا التوازن سيؤخذ في عين الاعتبار عند اتخاذ أي قرارات حرب مستقبلاً.
ب. ترسيخ الردع غير المتناظر:
عززت الحرب مكانة الأسلحة غير المتناظرة كالطائرات المسيرة والصواريخ الدقيقة كأسلحة استراتيجية، في مواجهة التفوق الجوي الإسرائيلي، وباتت هذه القدرات أساسية في معادلات الردع الإيرانية والإقليمية، وتعتمد عليها اليمن في التعويض عن سلاح الجو اليمني المدمر.
التعليقات مغلقة.