“الناجي من الهولكوست”، الأسير عيدان ألكسندر…!

في 27 كانون الثاني/يناير من كلّ عام، يُحيي المتعاطفون مع اليهود و”إسرائيل”، اليوم العالمي لما يُسمّى “الهولوكوست”، وهي كلمة يونانية الأصل، تعني مجازاً “التدمير إحراقاً”، أو ما اصطُلح على تسميته “المحرقة النازية ضدّ اليهود”.

أما الناجون من الهولوكوست أو (سوردي هاشوآ بالعبرية) فهم الأشخاص الذين نجوا من “المحرقة”، والتي تُعرّف بأنها “اضطهاد اليهود ومحاولة إفنائهم على يد النظام النازي ودول المحور قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها في أوروبا وشمال أفريقيا”.

ينطبق مصطلح “الناجين من الهولوكوست” على اليهود الذين استطاعوا البقاء على قيد الحياة خلال “عمليات الإبادة الجماعية التي قام بها النازيون”، مع ذلك، دأبت وسائل الإعلام الإسرائيلية والمتحدّثون باسم “إسرائيل” على وصف ما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، باعتباره “هولوكوست لا يقلّ فظاعة عن المحرقة النازية”.

لكنّ الأهم أنه يتردّد في وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخّراً استخدام مصطلح “الناجين من الأسر” (سوردي هشيفي بالعبرية) لوصف الأسرى الإسرائيليين الذين أُطلق سراحهم في الهُدنة الأخيرة مع المقاومة، بمن فيهم عيدان ألكسندر، وهو ما لم نعتد سماعه فيما يخصّ الأسرى الإسرائيليين الذين أفرج عنهم في بداية الحرب، حيث كانوا يوصفون بـ “الأسرى المُفرج عنهم”.

هذا الاستدراك الإسرائيلي المقصود، باستخدام كلمة “الناجي من الأسر” وربطها بمصطلح “الناجي من المحرقة” وهذه المقارنة غير الأخلاقية بين “وضع الأسرى في غزة” وبين “معسكرات الإبادة النازية”، تقف خلفها النيّة المُبيّتة المُتعَمدة لخلق نموذج جديد من “التعديلية التاريخية” أو بمعنى أدقّ تطويع الذهنية الإنسانية عبر الخلط بين الحدثين والمجاورة بينهما في العنوان، وحتى عبر المساواة الوقائعية بين “الهولوكوست” والأسر في غزة، فإذا كان الحدث الأول “إبادة شعب”، فإنّ الثاني، وفق التوظيف الإسرائيلي الخبيث “لا يقلّ فظاعة” عن الأول…!

يهدف هذا الربط إلى تطويع الوعي الإنساني حول مفهوم “الهولوكوست في الأسر”، بوصفه مُسلّمة على البشرية أن تتلقّفها وأن تتعامل معها. لكنّ المقاربة والمجاورة الإسرائيلية بين هذين المصطلحين لا تقف عن هذا الحدّ، ولا تُمهّد لتوصيف “المأسور الإسرائيلي” فحسب، إنما تتعدّى لوصف “الآسر الفلسطيني”؛ فإذا كان الذي ارتكب “المحرقة في أوروبا” “وحش نازي قاتل” فمن باب أولى، وفق التمهيد الإسرائيلي، أنّ الذي يستمرّ في احتجاز الأسرى الإسرائيليين يرقى إلى “المرتبة ذاتها”!

كالعادة، تستغلّ “إسرائيل” هذه التسمية لكسب المزيد من التأييد السياسي والتضامن العاطفي مع مقولاتها ومع أفعالها، وبالتالي تُسوّغ حربها التدميرية ضدّ الشعب الفلسطيني وضدّ رموز مقاومته، وكأنّ الذين “أحرقوا اليهود في غرف الغاز” يستوون مع الذين أسروا “عيدان ألكسندر” ورفاقه طوال هذه المدّة، وبالتالي يجوز، بل يحقّ لـ “إسرائيل”، أن تفعل بهم مثل ما فعلت مع مُرتكب الهولوكوست الرئيسي أدولف أيخمان، حيث اختطفته في عام 1960 من الأرجنتين ونُقل إلى “إسرائيل” وحوكم وأُعْدِم. وربما يفسّر هذا سلوك “إسرائيل” مع كلّ المقاومين الذين اعتقلتهم أثناء وبعد السابع من أكتوبر 2023، تحديداً من قطاع غزة، ووصفتهم بأنهم “مقاتلون غير شرعيّين” تمهيداً لإجراءات خارجة عن المألوف ربما تتخذها ضدّهم، وتنتظر أن يُقرّها العالم عليها.

وكما حقّقت الصهيونية مكاسب جمّة، وما زالت من قصة “المحرقة النازية”، ليس أقلّها استمرار ابتزاز ألمانيا وأوروبا حتى اليوم، فإنّ “إسرائيل” تصبو اليوم، ومن خلال قصّة “محرقة الأسر” لأن تحقّق جملة من المكاسب المادية والسياسية والأيديولوجية التي تتكئ عليها في استمرار الحرب التدميرية والسعي لطرد الفلسطينيين من أرضهم، بعد أن تخيّرهم، وهي تفعل، بين البقاء في أوطانهم والموت، أو الهجرة فوراً خارج فلسطين.

إنّ نجاح “إسرائيل” في تسويق وفرض “سردية الهلوكوست” فيما يخصّ السابع من أكتوبر وقضية الأسرى الإسرائيليين، بفضل حملات الدعاية والإعلام أو التخويف والترهيب، سيفرض على العالم تبنّي هذه السردية وربما يتبعها إجراء محاكمات وملاحقات للذين ينكرون ويرفضون الانصياع للرغبات الإسرائيلية.

والأخطر أنّ “إسرائيل” ربما تذهب للمطالبة بتعويضات، كما فعلت مع ألمانيا، بعد تحميلها “المسؤولية الكاملة عن الإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون في الحرب العالمية الثانية بحقّ اليهود”، حيث وافقت ألمانيا على “تعويض الناجين من المحرقة مادياً عن ممتلكاتهم والأضرار الأخرى التي لحقت بهم”، فضلاً عن “دفع مبالغ مالية لإسرائيل، باعتبارها وريث ضحايا الهولوكوست”.

يبدو جلياً أنّ “إسرائيل” بدأت التمهيد للاعتراف رسمياً بالأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة بوصفهم “ناجين” مع كلّ ما يترتّب على هذا المصطلح من تبعاتٍ قانونية وسياسية ومالية، كمقدّمة للمطالبة “بالتعويض” عن “معاناتهم” خلال الأسر، بحجّة “الحاجة للتعافي الجسدي والرعاية النفسية بسبب الإذلال والمعاناة التي تعرّضوا لها”، وكذلك “التركيز على إعادة بناء حياتهم والتعويض عن الاضطهاد الذي عانوا منه”.

بالإضافة إلى الحصول على المليارات من الدولارات كتعويضات، وكسب التضامن والتعاطف من الدول الغربية وشعوبها لتسريع عمليات الطرد والتهجير للفلسطينيين، فإنّ “إسرائيل” تأمل، بهذه المقاربات، أن تُطوّع الرأي العام الدولي ليتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، باعتبار أنّ “المحرقة” مأساة إنسانية كبيرة لا تُقاس بما يعانيه الفلسطينيون بسبب الحرب. زد على ذلك أنها تستمر في شحن الإسرائيليين وتحريضهم “ليدافعوا” عن “إسرائيل” بكلّ ما يملكونه، وإلا فإنهم سوف يتعرّضون “لمحرقة جديدة”.

ورغم أنه لا مجال للمقارنة بين “الهولوكوست” و”الأسر”؛ لا واقعياً ولا أخلاقياً، إلا أنّ الحديث الإسرائيلي المُغالي عن “صدمة الأسر”، يراد منه أن يكون النقطة المؤسِسَة “للأسطورة اليهودية الجديدة”، تماماً كما “الهولوكوست”!

وإذا كنا نبحث عن الإثبات غير القابل للطعن لنفي هذا التشابه والتجاور، فإنه باختصار في الشواهد الكثيرة التي نسفت هذه “السردية المريضة” وتَبدّت في ملامح وجوه الأسرى الإسرائيليين وفي نظافتهم الشخصية وفي سلامة صحتهم الظاهرة للعيان، على النقيض من آلاف الحالات لأسرى فلسطينيين خرجوا من السجون الإسرائيلية وقد تبدّى الأذى والتنكيل في أجسادهم الهزيلة المعتلّة وفي ملامح وجوههم التي أرهقها التعذيب والقهر والأمراض بسبب غياب النظافة الشخصية، بما يؤكّد أنهم كانوا يعيشون ظروفاً حياتية قاسية جداً وعوملوا معاملة دون مرتبة البشر.

يدرك الإسرائيليون، وهم يسعون اليوم بشكل محموم لإعادة هندسة الوعي الإنساني العالمي بما يتماشى مع تطلّعاتهم وأطماعهم، أنّ نجاحهم في فرض هذه الدعاية يجب أن يستند إلى فلسفة وزير البروباغاندا الألماني “جوسيف جوبلس” الذي كان يقول: “إنه يجب أن تكون أكاذيبك صادمة، على أن تكرّرها باستمرار من دون ملل، حتى تُصدّقها الجماهير من دون اعتراض”.

التعليقات مغلقة.