نص محاضرة ( اليوم الآخر ) للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين، ورضي الله عن صحبه المنتجبين.
    أيها الإخوة والأخوات / السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    وتقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال، وكتب الله لكم البركة في خواتيم هذا الشهر المبارك، يقول الله سبحانه وتعالى في كت
    ابه المجيد (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) في هذه الآية المباركة يوجه الله ندائه ونذيره لعباده الذين آمنوا، الذين آمنوا أنا وأنت كل من ينتمي للإسلام وكل من يدعي الإيمان هكذا يخاطبنا الله سبحانه وتعالى (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) وتوجيه هذا الخطاب إلى الذين آمنوا يدلل على أن الإنتماء الإيماني ليس كافياً، لا يكفي أن تحسب نفسك على الإسلام وتنتمي إلى الإيمان فيكون ذلك بطاقة حصانة لك تسلم بها من عذاب الله، فأن تقول أنا مسلم أنا مؤمن وتختار شيئاً من الدين من شكلياته وظواهره على حسب مزاجك، على حسب ما تهواه نفسك بقدر ما تنسجم معه، هذا ليس كافياً في أن يحقق لك الأمن يوم الفزع الأكبر، أن يحقق لك النجاة من عذاب الله، أن تكسب به رضوان الله سبحانه وتعالى، لا يكفي.
    من واجبنا جميعاً كمؤمنين كمسلمين ننتمي إلى الإسلام، ندَّعي الإيمان، أن نأخذ بعين الإعتبار هذا النداء الإلهي المهم، هو نداءُ رحمة وهو نداءٌ فيه الكثير الكثير من رحمة الله، من حكمة الله، من هداية الله، لأنه يدفعنا إلى كل ما أرشدنا الله إليه، دائرة واسعة من الأعمال طريق رسمها الله سبحانه وتعالى نتحرك فيها، منهجٌ نلتزم به، تعليماتٌ نأخذ بها، نتحرك على أساسها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) تحركوا التزموا، اعملوا ما يحقق لكم النجاة من عذاب الله، ما يشكل وقايةً لكم تدفع عنكم نار الله، فمجرد انتمائكم للإيمان ومجرد احتسابكم أنفسكم في دائرة الإسلام ليس كافياً، ثم من نفس هذا النذير الذي يوجهه الله لنا كمؤمنين كمسلمين (قُوا أَنْفُسَكُمْ) أنتم المعنيون بذلك، الإنسان هو من يحدد مصيره بنفسه، هذا إليك أنت، أنت من تتخذ قرارك وتحدد مصيرك ومستقبلك، أنت من تتخذ قرارك وتحدد مصيرك أن يكون في قَعر جهنم، أنت بما تعمل بتحركك في الحياة بطبيعة موقفك من رسالة الله، من تعليماته، من توجيهاته من تحدد مستوى العذاب الذي تعذب به في نار الله في نار جهنم، فالإنسان هو من يحدد مصيره إما خيراً وإما شراً، فلذلك يخاطبنا الله وينادينا نداء رحمة أن نقي أنفسنا من ناره من عذابه لأن هذا بأيدينا هذا متروك إلينا، ليس هناك من يمكن أن يقوم بهذه المهمة بدلاً عنا، وهو نذيرٌ مهم، نذيرٌ مهمٌ للإنسان، والإنسان المؤمن مؤمن بالآخرة لأن من أساسيات الإيمان، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالجزاء والحساب، بالجنة والنار، والإيمان هذا له أهميته الكبرى في أن يزرع في نفسك ويُرَسِّخَ في مشاعرك حالة الخوف من الله سبحانه وتعالى، ولهذا تكرر الوعيد في القرآن الكريم والإنذار، والإنذار مهمة أساسية لكتب الله ورسله، تكرر كثيراً في القرآن الكريم الوعيد والإنذار، الإنذار من عذاب الله من بأس الله من شدة سطوته، من أليم عذابه، تكرر في القرآن الكريم ليرسخ في أنفسنا حالة الخوف من الله فيكون هذا الخوف من الله سبحانه وتعالى عاملاً مهماً يدفعنا إلى الإستقامة، إلى الطاعة، إلى الالتزام بنهج الله، إلى التمسك بنهج الله، فيشكل وقايةً لنا من عذاب الله فننجى ننجو من عذاب الله، إذاً هذا من رحمة الله سبحانه وتعالى.
    التخويف والإنذار في القرآن الكريم في دين الله ليس فزاعة، ليس المراد منه إفجاعُنا، ليس المراد منه أن نمتلئ رعباً وقلقاً وخوفاً ثم نعيش في واقع حياتنا حالة اضطراب وذُلٍّ وإرباك .. لا، هذا خوفٌ إيجابي، خوفٌ وأنت تعرف طريق السلام، طريق الأمن، خوفٌ يدفعك إلى السلام، إلى الأمن إلى طريق النجاة، خوفٌ يدفعك إلى أن تشكل لك وقاية بما تعمله بما تلتزم به، تقيك من الخطر الكبير الخطر الرهيب، الخسارة الكبرى التي لا تساويها أي خسارة، إذاً فهو خوفٌ إيجابي يدفعنا للعمل، بما فيه نجاتنا بما فيه مرضاة الله، فهو من رحمة الله، من رحمة الله بنا أن أنذرنا، أن نبهنا على الخطر الكبير الذي نسببه لأنفسنا عندما نسير في الطريق الخطأ، في طريق العصيان، في طريق الغي، في طريق الضلال، في طريق الهلاك والشقاء، فمن رحمة الله العظيمة بنا أن أنذرنا، ولذلك عندما قال لنا في كتابه (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) لأن هذا من رحمته من رأفته، يحذرنا ويدفعنا إلى طريق الأمان، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) نتيجة أن نخاف من الله سبحانه وتعالى وأن نَرهَب عذابَه وسطوته، نتيجةُ هذا أن ننهى أنفسنا عن الهوى، أن نلتزم بمنهج الله، أن ننضبط فلا نكونُ تبعاً لأهواء أنفسنا حتى فيما هو عصيان، فيما هو مخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى، تكون النتيجة التي نصل إليها هي الأمن الدائم والسلام الدائم (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) وحالة الخوف من الله سبحانه وتعالى في الدنيا، في هذه الحياة هي حالةٌ إيمانية وهي حالة قائمة حتى لدى ملائكة الله، الله قال عنهم في كتابه الكريم (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) يعيشون حالة الخوف من الله سبحانه وتعالى، وصف بها أنبيائه بل قال حتى عن نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أخاف قل إني أخاف، حالة الخوف من الله سبحانه وتعالى، وحالة قائمة لدى المؤمنين الصادقين، حالة ملازمة للإيمان، كم وردت فيما يصف الله به عباده المؤمنين المتقين في القرآن الكريم، يذكر شيئاً من أوصافهم، ثم يذكر ما يدلل على خوفهم من الله سبحانه وتعالى لأنهم مؤمنون بالله، مؤمنون بقوته بجبروته، بعظيم سطوته بأليم عذابه، مؤمنون بأنه عزيز ذو انتقام يؤاخذ يحاسب وأن جبروته لا يساويه جبروت فيقول عنهم (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ) يعيشون هذه الحالة، والخوف بشكل عام هو عاملٌ مؤثرٌ في نفسية الإنسان، في مواقفه، في توجهاته، هذه حالة معروفة في واقع الناس، الخوف عامل مؤثر ولربما بشكل كبير جداً، وربما هو العامل الأبرز في حياة الناس، عامل الخوف، نرى الملايين الملايين يذعنون للطاغوت يركعون للطغيان والباطل يخضعون للظالمين والمجرمين يسيرون في طريق الباطل التي تقودهم إلى جهنم، ومن أهم العوامل في إذعانهم في خضوعهم في استسلامهم للباطل برغم مساوئه في الحياة، وأثره السلبي في واقع الحياة، نجد أن من أهم العوامل هو عامل الخوف، الخوف ولكن بطريق الخطأ والغلط الكبير جداً لدى الإنسان، بجهالته بسوء معرفته وفهمه يتخذ قراره فيَحِسب حساباً لأشياء يخاف منها لا تساوي شيئاً ولا تمثل شيئاً بجانب ما يجب أن يخاف منه، الله أولى بأن نَرهَبَهُ، الله أولى بأن نخاف منه، هو الجباَّرُ المقتدرُ القاهرُ العزيز، هو الذي (إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) مقتدر وجباَّر وقاهر وبأسُه شديد وجبروته عظيم لا يساويه أي جبروت، حكى لنا في واقع الدنيا ورأينا في واقع الدنيا الكثير من بأس الله وجبروته، حكى لنا عن الأمم التي أهلكها ونرى في تصريف الكون في تصريف أمور الحياة حوادث كثيرة تدلل على عظيمِ قدرته على شدةِ بأسهِ وجبروته.
    إذاً فعامل الخوف عاملٌ مهم، وإذا كان الإنسان بعيداً عن الإيمان بالله غافلاً عما أنذرنا الله به من عذابه وبأسه فإن الإنسان يقع في الكارثة الكبرى، فيخاف من خلق الله، من عبيد صاغرين أذلاء تحت قهر الله سبحانه وتعالى، وينسى الخوف من الله سبحانه وتعالى، ويغفل عن الخطر الكبير جداً الذي يجب عليه أن يسعى لأن يقي نفسه منه، وهو بأس الله وعذاب الله، ولذلك لأهمية الخوف من الله سبحانه وتعالى يجب أن يُعَزِزَ الإنسان في نفسه الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالآخرة والله حكى عن المؤمنين الحقيقيين المتقين (وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) بقدر هذا الإيمان، بقدر ما يكون أثره في واقع حياتك، في التزامك، في طاعتك، وبقدر ما يحقق لك الأمن يوم الفزع الأكبر والسلامة من عذاب الله.
    الخوف من الله سبحانه وتعالى من خلال الإيمان بأن هناك عذابٌ حقيقي والعذاب الذي حذرنا الله منه، ليس فزاعة، ليس خطراً وهمياً، ليس كلاماً للإرجاف، خطر حقيقيٌ ومصير كبير ينتظر الإنسان، والحديث في القرآن الكريم عن الآخرة، عن بأس الله، عن عذاب الله، عن نار جهنم، عن مشاهد القيامة، حديث واسعٌ تكرر في صفحات القرآن الكريم، فتحدث لنا القرآن الكريم عن الآخرة بدأً من يوم القيامة، البوابة الكبرى التي ندخل منها إلى العالم الجديد، ويبدأ يوم القيامة كما وصفه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بمشاهدَ هائلة مشاهدَ كبيرة جداً يبدأ بانهيار هذا الكون، هذا العالم الكبير الفسيح، بكل مكوناته، بكل أجرامه، بسمائه وأرضه، بشمسه وأقماره، بنجومه وكواكبه، بكل مظاهر الحياة فيه، يندثر هذا الكون بأمر الله وبإذن الله، ويتحطم العالم بكله، وتنتهي كل مظاهر الحياة فيه، يبدأ هذا الحدث الذي ذكره الله في القرآن الكريم بزلزالٍ عظيمٍ هائل، يقول الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) يبدأ الزلزال العظيم الذي يهز الكون بكله فيندثر بكل أجرامه ويتحطم ويتهاوى ويتساقط وتنتهي كل عوامل بناءِ هذا الكون، الجاذبية وغيرها التي جعلها الله من سننه في حفظ هذا الكون، فيضطرب هذا العالم ويتحطم، تتحطم كل مفرداته، السماء التي هي كبيرة جداً والتي هي بمثابة السقف لهذا العالم، السموات السبع والسماء الدنيا حتى هي تتأثر بهذا الحدث الكبير فتبدأ بالانشقاق (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) ويستمر الوضع في تحطمها وتكسرها، فيقول (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا) وتستمر في التلاشي والتحطم مع ذلك الحدث الهائل الكبير جداً الذي لا يمكن أن يستوعب الإنسان حقيقته بِقَدرِه (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) تتقطع السماء وتبدأ كل قطعة منها بالانكماش فتتلاشى وتنتهي.
    ونأتي إلى الشمس أيضاً، الشمس التي كانت منيرة، تصل أشعتها إلى الأرض فتمنح الإنسان النور والضوء والدفء، وتُمده بطاقة كبيرة للحياة للنبات للأشجار، لأشياء كثيرة في واقع الحياة، هذه الشمس يبرُد لهبها وتنخمد نارها، وتصاب هي في نفسها ولربما تصطدم بجرم سماوي آخر، فتندك معه، ولذلك يقول سبحانه وتعالى (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) ويقول (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) فتنطفئ النجوم بكلها التي نراها ليلاً بكثرتها بأعدادها الكبيرة بقدر أحجامها تعمها حالة من الفوضى فتتهاوى وتتساقط ويضرب بعضها بعضاً وينطمس ضوئها تماماً وتتدمر وتتلاشى، ولذلك يقول سبحانه وتعالى (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) فبقيت معتمةً لا ضوء فيها، وانتهى توهجها ويقول (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) تتساقط وتتهاوى وتضرب بعضها بعضاً.
    ثم نأتي إلى هذه الأرض، الأرض التي نحن عليها، مستقرةً هيأها الله لكل حاجيات الإنسان، بما يتناسب مع حياته مع احتياجات حياته فكانت سكناً ومأوى يستقر عليها الإنسان ويستفيد من كل ما سخره الله له فيها، الأرض أيضاً كذلك يقول الله سبحانه وتعالى (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً) الأرض بكلها تدفع دفعاً وتُدكُ دكاً وبشكل هائل، تدك دكاً كبيراً تزلزَلُ زلزالاً عظيماً هائلاً يشمَلُها بكلها، زلزال هائل، زلزال عظيم، ليس على بقعة صغيرة، وليس زلزالاً يقاس بمقياس رختر، ويقال سبع درجات أو تسع درجات .. لا ، زلزالٌ عظيم (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) زلزال يشملها بكلها فيدمرها ويعيد تشكيلها من جديد ويدمر كل مظاهر الحياة عليها، دكاً هائلاً ينهي بحارها فبحارها تتفجر، ومياهها تتسعر وتتلاشى، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى عن البحار نفسها (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) البحار الهائلة والمحيطات التي تغطي معظم الأرض تنتهي، تنتهي يفجرها الله ومياهها يُسَجِّرها ناراً وتتبخر وتتلاشى وتنتهي.
    أما حالُ جبالها فكذلك، والجبال تشكل مساحة كبيرة على الأرض، وهي عاملٌ أساسيٌ في استقرار الأرض للحياة، كي لا تضطرب كي لا تكون مضطربة بالإنسان ومهتزةً باستمرار، لكن الجبال برغم كثرتها، برغم قوتها وصلابتها، برغم أحجامها الكبيرة والمساحة التي تحلها على الأرض، كذلك ينتهي أمرها، إلى درجة عجيبة تتحول إلى غبار، وتتحول إلى هباء يطير في الجو (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) يقول الله سبحانه وتعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا *فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) ينسفها الله فلا يُبقي منها شيئاً، وتتحول إلى غبار يطير في الجو محتفظةً بألوانها، ثم تتشكل الأرض وتأخذ شكلاً جديداً مختلفاً عن شكلها السابق، أرض لم يبق فيها أي شيء من مظاهر الحياة، لا بحار، ولا أنهار، ولا بيوت، ولا مزارع، ولا نبات مثلما يقول في آية أخرى (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا *وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) فإذا بالأرض لها شكلٌ جديد مختلفٌ تماماً تتحول إلى ساحة واحدة، صحراء واحدة، أرضية واحدة (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) لا ترى فيها أماكن منخفضة ولا أماكن مرتفعة (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) تمتد وتصبح ساحةً واسعةً جداً ليس فيها أي مكان منخفض ولو شيئاً يسيراً، مستويةً (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا) قاعاً مستويةً وأرضاً مستويةً مدكةً جاهزةً لمهمةٍ جديدة، فالأرض التي جعلها الله لنا لنعيش عليها وأمدَّنا بكل ما نحتاجه، واستعمرنا فيها واستخلفنا فيها وكانت مهداً لوجودنا ومكاناً لاختبارنا ولمسئولياتنا، أصبح لها حين ذاك مهمةٌ أخرى ودور آخر، لقد سواها الله ساحةً واحدة ليكون عليها مشهد كبير في يوم عظيم، يومٌ عظم الله أمره، يوم القيامة وللحساب والسؤال والجزاء.
    في بداية المشاهد الهائلة والكبرى لنهاية الحياة، انتهى ما تبقى من وجود للإنسان مع الزلزال العظيم، مع الصعقة الأولى والنفخة في الصُور، النفخة الأولى الإنسان في خضم تلك الأحداث الكونية الكبرى التي أنهت هذا العالم وأعادة تشكيله من جديد انتهت حياته، كان منبهراً مع بدايتها متفاجئاً بها مندهشاً مذهولاً أمام ذلك الهول الكبير، أمام ذلك الهول العظيم (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا *وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا *وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا) مدهوشاً منذهلاً منبهراً، في خضم تلك الأحداث الهائلة في بداية مشاهد القيامة صعق من في السماوات ومن في الأرض وانتهت المرحلة الأولى من الحياة، وبدأت مرحلةٌ جديدة ابتدأها الله سبحانه وتعالى بالبعث وإعادة الحياة إلى المخلوقات من جديد، ومنها الإنسان، وحديثنا يتركز عن الإنسان، الإنسان بعد مماته يعيد الله إليه الحياة ويكونُ الموت في واقع الإنسان ما بين الحياة الأولى والحياة الأخرى، وكأنه فاصلٌ إعلاميٌ قصير، كما نرى فاصل في التلفزيون بين برنامج وآخر، فاصل قصير الموت بالنسبة للإنسان فاصل قصير، تعود إليه الحياة بأمر الله ويَنفخ الله فيه الروح من جديد ويبعث خلائقه من جديد، فيقوم الإنسان (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) يقوم الإنسان من رقدته يحيا من مماته فإذا به يشاهد نفسه في حال مختلف في ساحة مختلفة لا يرى تلك الأرض التي كان عليها، لا منزل يراه، لا مشاهد من مشاهد الحياة يراها، يرى نفسه في ساحة الحشر في خضم واقع جديد، فيقوم الإنسان منذهلاً مندهشاً متفاجئاً حتى من كانوا ينكرون المعاد، أو كانوا غافلين عنه يقولون (مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) ما الذي حصل لقد عدنا إلى الحياة من جديد وأصبحنا في واقع آخر للحساب والمسائلة والجزاء، يعيد الله الحياة إلى الخلق وتبدأ مرحلة الحشر، يُحشر الناس بكثرتهم، الأولين والآخرين كل البشر منذ آدم وإلى نهاية الحياة البشرية، الجميع عادوا إلى الحياة والجميع يحشرون ويجمعون إلى ساحة الحشر وفق ترتيبات أعدها الله سبحانه وتعالى هناك في يوم الفصل في يوم الحساب (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ) عندما يدعوهم الداعي ويجمعهم وينظمهم الملائكة الكل يتحرك إلى ساحة الحساب، إلى ساحة الحشر بكل انتظام، ليس هناك أحد يتعصى أو يمتنع أو يتعنت الكل منقاد والكل يجتمعون بكل انتظام وكلٌ يأخذ موقعه ومكانه في ساحة الحشر بحسب الترتيبات التي تُعدها ملائكة الله هناك، (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ) بينما الكثير لم يتبع داعي الله في الأرض، وهناك كانوا على استعداد، ويجتمع الخلائق والكل يأتي في ساحة الحشر من كل البشرية عبداً ذليلاً مستسلماً خاضعاً لله سبحانه وتعالى، يأتي إلى ساحة الحساب بعبوديته من موقع عبوديته، ليس هناك أحد يأتي متعالياً ولا أحد سيأتي بموكب كبير، ولا أحد سيأتي من مقامٍ دنيويٍ معين، رئيساً أو ملكاً أو أميراً أو قائداً أو ضابطاً أو أي مرتبة أو أي عنوان من عناوين الدنيا.. لا، الكل عبيد لا رئيس ولا مرءوس ولا ملك ولا رعية ولا أي شيء، الكل يأتي بصفته عبداً ذليلاً في موقف الحساب والسؤال والجزاء (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا *لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا *وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) الكل يأتي فرداً لا جيش له، لا نصير له، لا قوة له، وليس بإمكان أحد أن يمتنع أو يختفي أو يُنسى أبداً (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) فيأتي الكل ويجتمعُ الكل في ساحة الحساب وقد نظمتهم الملائكة وكلٌ أخذ موقعه في حالة مهيبة في موقف مهيب مع كثرة البشرية على امتداد حياتها الدنيا، مع كثرتها الهائلة، الكل في حالةِ خضوع وإجلالٍ واستسلام لله سبحانه وتعالى في مقام مهيب (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا) من يريد أن يتحدث إلى من بجنبه أو إلى شخص آخر يتحدث معه بالهمس، الموقف مَهيب بشكل كبير جداً، وجلال كبير للموقف، حتى الملائكة (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) يتفاجأ الإنسان في تلك الحال ويستغرب، يستذكر كم كان الفارق بين الحياة الأولى والحياة الآخرة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة، يرون الفترة التي كانت ما بين الحياة الأولى والحياة الأخرى منذ مماتهم إلى أن بعثوا أنها قصيرة وقصيرة جداً وكأنها ساعة واحدة، ويقسمون على ذلك.
    تبدأ مرحلة الحساب والمسائلة في تلك الساحة الكبيرة، وتبدأ عملية الحساب بتسليم الصحف والكتب، الإنسان كل أعماله موثَّقَة والعدل الإلهي سيعطي للإنسان فرصة المحاسبة والمسائلة والدفاع عن نفسه، والعدل الإلهي سيثبت ما على الإنسان من إدانات، من جرائم، من تقصير، من عصيان بكل الأدلة والبراهين الدامغة، ولذلك تسلم الصحف والكتب في بداية عملية الحساب والمسائلة (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) في ذلك اليوم المهم (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) هو الذي يحدد مصيره مستقبلاً (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا *اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) سترى نفسَك بنفسِك، وسترى عملك، عندما ننظر في واقع حياتنا في هذا العصر كيف مكن الله البشر من تقنيات التصوير والتوثيق والفيديو، يوثَّق الإنسان صوتاً وصورةً بشكله وعمله يوثق تماماً ويرى، لا نستبعد أن تكون طريقة التوثيق لأعمال الإنسان في الكتب الإلهية في هذا الكتاب الإلهي الذي يحصي الله فيه أعمالك ما لك وما عليك، أن تكون موثقة على هذا النحو، هناك آيات في القرآن تؤكد أن الإنسان سيشاهد عمله (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى *ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) والرؤية هنا لم يُعَبَر بها عن نفس العذاب أي يرى عذابه، لأنه تحدث عن العذاب مستقلاً (ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) ليُروا أعمالهم، فهذا الكتاب الإلهي يتضمن أعمال الإنسان، وهنا يتجلى للإنسان أهمية العمل، عملك هو الأساس، عملك هو الذي يتحدد به مصيرُك، والبعض تبدأ حالةُ الخوف لديهم تعظم وتشتد من تلك اللحظات، يدركون أنهم خاسرين (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) تبدأ عمليةُ تسليم الصحف والكتب التي وُثِّق فيها أعمال الناس وعملية التسليم نفسها فيها مؤشرات ودلالات على مستقبلك ومصيرك وعلى ما يحتويه كتابك، هل يحتوي كتاب عملك على أعمال عظيمة، أعمال خير، أعمال بر، أعمال طاعة، أعمال استقامة، أم هو أسود بالذنوب، والجرائم، والعصيان، والتقصير، والتفريط، والتعنت، والتجاهل لكثير من أوامر الله سبحانه وتعالى، والإخلال بمسئوليات أساسية أمرك الله بها.
    عملية التسليم، الإنسان المؤمن الحقيقي الفائز يُسَّلم كتابه بيمينه ومن أمامه، ومن أمامه فيستبشر ويكون حسابُه يسيراً، والإنسان الخاسر الخائب الهالك يؤتى كتابه بشماله ومن وراء ظهره، ويبدأ شعوره بالندم والأسف وإدراكه لخطورة ما يحتويه ذلك الكتاب، كم سيتضمن من أعمال أساسية أمره الله بها لم يعملها، كم سيتضمن من تجاوز وتعدي واقتراف لكثير من الذنوب (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا *وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا *وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا *وَيَصْلَى سَعِيرًا) وفي آية أخرى يوضح الله لنا مدى تَحَسُر وندم وألم من يؤتى كتابه بشماله (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ *وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ *يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ) يرى الإنسان أعماله ويحاسب على ضوء ما احتوته تلك الكتب ويرى أن الله أحصى كل شيء، الله لم يَغفِل ولم ينسى، عليك رقابة منه، ورقابةً جعلها لتوثيق ما تعمل وإحصاء ما تفعل فيما تقترفه وفيما تقصر فيه وتفرط فيه، وهناك تستمر عملية الحساب ويُدان الإنسان أو يفوز على حسب ما عمل، على حسب ما كان قد حدده من مصيره في الدنيا، وفي ذلك الوضع سيحاول الإنسان أن يدافع عن نفسه، الإنسان المدان المقصر المفرط العاصي الذي عاش بعيداً عن هدى الله عن توجيهات الله لم يحسب حساب الله حساب آخرته تغافل ونسي وتجاهل، سيحاول أن يدافع عن نفسه (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) فيجادل ويناقش، ولكن لو أكثر من الكلام لو تحدث كثيراً لو حاول أن ينكر ما قد توثَّق من أعماله مرئياً واضحاً ثابتاً، سيقال له اسكت هناك من يريد أن يتكلم (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ) بعد الكثير من الكلام والكثير من الجدال والكثير من المكابرة (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) اسكت أيها الإنسان هناك شهود آخرون لهم شهادات وسيقدمون شهاداتهم، أعضاؤك، جوارحك، فيصل الإنسان إلى حال لا يستطيع فيه المكابرة، وحينها يتحدد مصيره بعد إكمال الحساب، على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي، الحساب للإنسان كإنسان، والحساب للإنسان ضمن أمة ضمن توجه لأن من أهم ما في يوم القيامة أنه يوم الفصل، يوم الفصل بين العباد، يومٌ يحكم الله بين عباده(فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ما اختلفوا عليه في الدنيا وما تقاتلوا عليه، ما تنازعوا فيه، ما تباغضوا عليه، ما كانت بسببه مشاكل فيما بينهم، يحكمُ الله بحكمه العادل يوم القيامة، ويوم القيامة يومٌ يتجلى فيه العدل الإلهي، وتتجلى فيه حكمة الله، ويتجلى فيه عزة الله المنتقم، يومٌ ينتقم الله للمظلوم من الظالم، يومٌ يُحق الله فيه الحق، يومٌ ينصر الله فيه أوليائه النصر العظيم، النصر الأكبر (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ *يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) وهناك في ذلك المقام في يوم الفصل (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) بعد الفصل بعد المحاكمة الإلهية، بعد الحساب الفردي والجماعي يأتي الحكم الإلهي العادل، الحكم على الإنسان، فبعد المسائلة والحساب تأتي مرحلة الجزاء، مرحلة الجزاء، والإنسان في ذلك الموقع وقد تحدد مصيره هو في حالةِ عجز لا يستطيع أن يعمل لنفسه شيئاً، عندما يصدر الحكم الإلهي عليك بالعذاب والنكال، أنت في حالة عجز لن تستطيع أن تدفع عن نفسك عذاب الله، ولا أن تهرب، ولا أن تختفي ولا أن تتمرد ولا أن تواجه الله، بل إن الله سبحانه وتعالى يقول لكل الهالكين المليارات من البشر، العدد الهائل من البشر الذين سيتجهون إلى جهنم يقول (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ *وَقِفُوهُمْ) فليقفوا ويتوقفوا (إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ *مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ) لماذا لا تتناصروا أنتم عدد كبير وهائل هل تشكلون قوة.؟ هل تستطيعون بعددكم الكبير جداً أن تدفعوا عن أنفسكم (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) استسلام وعجز وخضوع وانقياد وشعور بالذل (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) فاجتمع كل المتمردين والمتعنتين والظالمين والمجرمين والطاغين والمقصرين، اجتمعوا كلهم من الأولين والآخرين (فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) الكل في حالة العجز والكل في حالة ضعف ولا من معين، لا أمتك، لا حزبك، لا جيشك، لا حكومتك، لا قبيلتك، لا أصحابك، لا أصدقائك، ولا حتى أقربائك، حتى الروابط القريبة القريبة (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ويتحدد المصير لكل إنسان كفرد، للجماعات كجماعات، للأمم كأمم، يتحدد مصيرها ليكون هناك افتراق في مستقبل البشرية الجديد (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) في الدنيا كانوا مجتمعين والأرضُ استوعبت الكل أما هناك فتبدأ حالة الإفتراق، بعد أن يتحدد المصير يُقرب الله النار ويقرب الجنة لتبدأ عملية الإنتقال من ساحة الحشر إلى مرحلة الجزاء بعد الحساب والمسائلة وحينئذٍ عندما تقرب جهنم ويراها الهالكون والخاسرون تكون حسرتهم شديدة، يدرك الإنسان حجم خسارته الهائلة التي لا يمكن أن تعوض أبداً (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) الإنسان الذي لم يتذكر في الدنيا يوم ذكَّره الله بكتابه، لم يتذكر بآيات الله، لم يتذكر بكلمات الله، لم يتذكر بكثير من الأحداث في واقع الحياة التي فيها العضة وفيها العبرة وبقي غافلاً غافلاً غافلاً لكنه في ساحة الحشر يوم أن جيء بجهنم عالم النار، جهنم المحترقة العالم الذي يُجَسِّد سخط الله، ومقت الله، وبأس الله، وجبروت الله، عالم كله نار، نار هائلة جداً (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) ويتمنى لو أنه قدم لهذه الحياة تلك الحياة الأبدية، وتُقَرَّب الجنة (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) ويتحدد المصير ويأتي القرار الإلهي (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) هذا هو المصير الخاسر (خُذُوهُ) يعطي الله الأمر لملائكته، للزبانية، يعطيهم الأمر بأخذك عندما تكون خاسراً فيأتون لأخذك ويقيدونك بقيود الله سبحانه وتعالى (فَغُلُّوهُ) يقيدون الأيدي إلى الرقاب، ويأخذونك رغماً عنك من ساحة الحشر وإلى أين..؟ إلى أين سيذهبون بك (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ *ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) من الواضح أن الإنسان سيخاف جداً ويحاول لو أنه يمكنه الإمتناع عندما يرى مصيره أنه إلى جهنم وأنه سيؤخذ إلى هناك، يحاول أن يمتنع لكن الملائكة تدفعه رغماً عنه (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) يدفع الإنسان رغماً عنه (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) فيسحب أو يدفع رغماً عنه مقيداً بقيود الله، مغلولةً يده إلى رقبته ويؤخذ إلى هناك.
    ويحكي القرآن الكريم لنا مشهداً مؤثراً جداً يجب أن يحسب الإنسان له حسابه من الآن، في ساحة المحشر وبعد اكتمال عملية الحساب، وبعد تقرر المصير، تبدأ عملية الإنتقال من ساحة المحشر، يتوجه المؤمنون الفائزون المؤمنون الحقيقيون الذين انطبقت عليهم مواصفات المؤمنين الواردة في القرآن الكريم، المؤمنون الذين تمسكوا بنور الله في الدنيا واتبعوا ما أنزل وساروا على أساس هديه يتحركون في موكبٍ نورانيٍ مقدسٍ عظيم، متجهين إلى جنة الله (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) فبعد اكتمال عملية الحساب أصبح الوضع على ساحة المحشر ظلامٌ دامسٌ قد عم الجميع، وهناك يتجلى ويتجسد النور الذي كانوا يتَّبِعونه في الدنيا إلى نور حقيقي يبصر لهم وينير لهم في الظلمات الشديدة (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) والملائكة تبشرهم (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وهناك فئة من المسلمين، من الأمة الإسلامية، من المصلين الصائمين المزكين الحاجين، فئة معينة تُطرد تكون مظلمة ليس لها شيءٌ من ذلك النور وتحاول أن تلتحق بهم، وتحاول أن تأخذ وتقتبس من نورهم (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) انتظروا لنا لنأتي معكم ونكون معكم، فنقتبس من نوركم فلا نور لنا لأنَّا في عتمة الظلمة (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) ويحاولون اللحاق بهم ويسعون للانضمام معهم، ولكن ملائكة الله تواجههم وتقول لهم (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) يطردون ويمنعون من الملائكة، ارجعوا .. (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ) طرد، وورائكم أين، أين..؟ هل يمكن أن تكون الحال كما في الدنيا لو ذهب الإنسان إلى وليمة أو استضافة أو اجتماع فوجد نفسه غير مرغوباً به فسخط وقال سأعود إلى البيت (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ) ليس إلى البيت ولا إلى المنزل (ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ) ورائها جهنم، ما ورائهم هو المصير إلى عذاب الله، هو الخسران (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) ابحثوا لكم عن نور، نور المؤمنين أولئك لا يمكن لكم أن تستضيئوا به ولا أن تنضموا معهم هنا لتستنيروا معهم، ويبدوا أنهم يلحون ويبدوا أنهم يحاولون بكل جهد أن ينضموا وأن يلتحقوا بالمؤمنين، لكن الله سبحانه وتعالى يجعل بينهم حائلاً آخر (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ* يُنَادُونَهُمْ) ينادونهم من وراء ذلك السور (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) الم نكن في الدنيا معكم مسلمين كمثلكم نصلي كما تصلون، نصوم، نُزكّي، نحج ويطلق علينا اسم مسلمين وإسلام (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى) كنتم في الدنيا معنا مسلمين محسوبين على أنكم من المسلمين (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) فتنتم أنفسكم فلم تستقيموا ولم تستيقنوا بما وعد الله، ولم تثبتوا على الحق، وواليتم أعداء الله، وكانت مواقفكم لصالح أعداء الله، أعداء الأمة، أعداء الإسلام، وكنتم متربصين بنا منتظرين لنا الشر والسوء، فهذه عاقبة أمرنا وتلك عاقبة أمركم (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ) منيتم أنفسكم بالنجاة بقدر ما معكم من الدين، متجاهلين لعظيم ما رفضتم، وكبير ما قصرتم، وسوء ما فعلتم (حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ *فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) العامل المادي الذي كان هو الأهم عندكم في الدنيا فقصَّرتم من أجله، خنتم إسلامكم وأمتكم من أجله واليتم أعداء الله من أجله، اليوم لا ينفعكم ولا يمكن أن تجعلوا منه فديةً تفتدون بها عذاب الله (فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) لا منكم ولا منهم (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ما أبأسه من مصير وما أسوأه من مصير (مَأْوَاكُمُ النَّارُ) فلم ينفعكم ذلك القدر من الإسلام الذي كان بالشكل ولم يكن في العمق لم يكن في الموقف (مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ومن هم هؤلاء، المنافقون فئة من المسلمين، ما هو النفاق في الإسلام، ومن هم المنافقون، نعود إلى القرآن الكريم لنعرف ذلك يقول الله سبحانه وتعالى (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ) بماذا بالجنة، برضا الله، بالنعيم (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) وما أسوأها من بشارة، بشرهم بعذاب الله، بشرهم بجهنم، بشرهم بالشقاء الأبدي، بشرهم بالخسران الدائم، من هم (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) يتخذون الكافرين أولياء فيناصرونهم، ويتحركون فيما يخدم مواقفهم، أما موقفهم من المؤمنين فهو العداء والبغض والكراهية مواقفهم تتحرك ضد المؤمنين في الإتجاه المعاكس، ضد المؤمنين فيما يخدم، وفيما هو مصلحة للكافرين (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) وتبقى مرحلة الإنتقال ويتحدد مصير المنحرفين عن هدى الله البعيدين عن دين الله الذين لم يستجيبوا لله وحكم الله عليهم بالعذاب فينتقلون إلى جهنم وما أعظمها من حسرة عندما يصلون إلى أبوابها.
    وكما حكى الله عنها (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) لها سبعة مداخل كل مدخل إلى مستوى معين من العذاب بقدر أعمالهم، بقدر جرائمهم، بقدر ذنوبهم (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) والعياذ بالله، وهناك في جهنم العذاب متفاوت بمستوى ذنوب الإنسان بمستوى خبثه، بمستوى ما تركه في عمله من سوء، هناك من داخل المسلمين الفئة الأكثر خسراناً الأسوأ مصير الأسوأ عاقبة، الأشد عذاباً من ..؟ (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) المنافقين ولو أنهم مسلمون يصلون يصومون لكن ولائهم لأعداء الإسلام تخريبهم للواقع الإسلامي من الداخل، سوء عملهم، سوء عملهم فيما تركه من أثر سلبي وخلخلة داخل المجتمع المسلم، جعل لهم مصيراً سيئاً في جهنم هو الأسوأ هو الأشد عاقبة هو الأكثر خطورة هو الآلم عذاباً (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) وواضح أن الإنسان على شفير جهنم، وقبل أن يدخل، وحين الوصول إلى أبوابها سيكون في حالة خوفٍ شديد ومحاولة لافتداء نفسه من العذاب، فيحاول أن ينكر من جديد وأن يكابر ما قد ثبت عليه في ساحة الحشر هناك، ومن جديد وللعدل الإلهي تأتي الأدلة الدامغة التي تثبت على الإنسان سوء ما عمل (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ *حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا) عندما يكابر الإنسان من جديد تكون خصومته مع نفسه، مع جسده، مع جلده، مع سمعه وبصره، وحتى أنه يناقش جلده، كيف تشهد علي (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ثم يلقى الإنسان، يلقى الإنسان والعياذ بالله في جهنم حسب ما يحدد له من الباب الذي يحدد له إلى المستوى من العذاب الذي يحدد له، ليكابد ويعاني ويذوق أنواع العذاب الأليم الشديد الذي يمثل بأس الله وجبروته، فيرى لكم عقاب الله شديد، عقاب الله الذي لم يبالي به في الدنيا، وأذعن للطاغوت خوفاً من الظالمين، يرى كم فرط كم خسر والعذاب في جهنم عذابٌ متنوع، في مقدمته الإحتراق بنارها، ونار جهنم حرارتها شديدة جداً جداً، درجة حرارتها عالية بشكل لا يتخيله الإنسان، الإنسان يرى ضعفه وعجزه ورقة جلده ومدى الأذى والضرر الذي تلحقه به نار الدنيا التي هي نعمة وذكرى، ذكرى نتذكر بها جهنم، وجُعلت نعمة للإنسان يستفيد منها في طبخ طعامه في أشياء كثيرة جداً من أمور حياته، النار التي هي نعمة ودرجة حرارتها لا تساوي شيئاً أمام نار الله التي سَعَّرها من غضبه، ومن بأسه وجبروته، هذه النار لو جُهز للإنسان فرن صغير ليجلس فيه لدقائق لما استطاع، لو طلب منك أن تنزل في تنور أو جُعلت في تنور بعد أن تَحمى بالنار كيف يكون حالك، كيف يكون مدى الخوف والألم والضرر الذي يطالُك وربما يقتُلُك، بل ربما لو يطلب من الإنسان أن يدخل يده لبضع دقائق لتحترق في نار هادئة لكان الأمر كارثيا على نفسه، أما هناك فنارُ الله، نار الله الهائلة، عالم كبير جداً كله نار متوقدة مستعرة (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ) ضلل كتل هائلة جداً كأمثال السحب الكبيرة كلها كتل من النيران المشتعلة التي تنصب فوقهم، وتنزل عليهم من الأعلى (وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) فالنيران المستعرة من بأس الله تأتي من كل مكان، من فوقك، من تحتك، من خلفك، عن يسارك، عن يمينك، من كل جهة، وكهذا يحترق الإنسان ويعاني من عذاب الإحتراق (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) وهناك في داخل جهنم أماكن ضيقة هي أشد حرارة، الحرارة هي أشد (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا *لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) ينادون بالهلاك، يصرخون بالهلاك من شدة الألم، الألم والعذاب الشديد الذي يعانون منه، ويُعَذَّب الإنسان بتلك النار وحتى أعز ما في الإنسان على نفسه وهو وجهه، لا يمكنك حماية وجهك لأن يديك مقيدتان، فلا تستطيع أن تدفع عن وجهك اللهب (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) تُشوى وجوههم بالنار، وتلفح وجوههم وهم كالحون، مع احتراق الوجهة تنقشع الشفة العليا إلى الأعلى والشفة السفلى إلى الأسفل، وتبقى أسنان الإنسان ولجماه بارزة (وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) يوضع الوجه على جمر النار، على الجحيم مرةً على الجهة اليمنى، مرةً على الجهة اليسرى ليَشتَوي (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) لتحس بالعذاب يباشر وجهك، مس جمر جهنم وشدة لهبها وشدة حرارتها تباشر وجهك، ويستمر الإحتراق والنيران المتسعرة، ويضل الإنسان المتعذب هناك يبحث عن مكان يكون فيه شيءٌ من البرودة، فيرون هناك ظِل، ظِل وهمي، ما يشاهدونه من بعيد وكأنه ظِلاً ممتداً ومتشعباً (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ) ويتحركون حتى يصلوا إليه ليكون بانتظارهم هناك مفاجأة من بأس الله وعذابه الشديد، لم يكن ظِلاً كان دخان جهنم يتجمع هناك ويتكثف هناك (لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) لا فيه ظِل يستظلون به ولا يغني من اللهب فداخله اللهب الكبير (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) الشرر الذي يتطاير من جمر جهنم ومن صخراتها النارية الهائلة الشرارة الواحدة كأنها القصر الكبير، هذه الشرر فقط التي تتطاير منها (كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ).
    ويُعذَّبُ الإنسان هناك بكل أنواع العذاب الإحتراق بالنار جزء من عذابه، الظمأ الشديد مع الحرارة الشديدة عذابٌ آخر، فيعاني وعندما يستغيث من العطش الشديد جداً والظمأ القاتل من دون قتل من دون موت، يأتيه شرابٌ هو عذاب (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) بعد الإستغاثة الكثيرة والتضرع الكثير والمعاناة الكبيرة جداً من شدة العطش، يقدم لهم حميم يغلي وحرارته شديدة جداً لدرجة أنهم عندما يُقَرِّبونه ليشربون منه يشوي وجوههم من فورة حرارته (بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) وعندما ينزل إلى بطونهم ماذا يصنع، حميم وحرارته شديدة (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) ليس ليرويهم، ليس ليخفف من ظمأهم بل يشوي الوجوه وفي الداخل يقطع الأمعاء (وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ) من القيح كريحه في منظره في مذاقه مع الحرارة (يَتَجَرَّعُهُ) لشدة العطش، العطش والظمأ الشديد جداً جداً يَجبُر نفسه به (يَتَجَرَّعُهُ) رغماً عنه (وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) لشدة العذاب في كل جزءٍ من جسده ألٌمٌ شديد لو كان بالإمكان أن يموت لكان أيُ ألم في أي جزء من جسده قاتلاً (وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ).
    الجوع كذلك، جوع شديد جداً ولا طعام ويستغيث الإنسان ويصرخ ويتضرع فيؤتى بطعام من شجرة الزقوم (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ *طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ) مثل حثالة الزيت (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ *كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) يأكلونه فيغلي في بطونهم كله نار كله عذاب لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يدفع عن الإنسان شدة الجوع، ويأكلون منه كثيراً لدرجة أنه قال (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ *فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ).
    وهكذا كُلُ ما كان أساسياً في حياة الإنسان في الدنيا يتحول في النار إلى حالة من العذاب، ويعذب الإنسان ويُحَرَّق، ويُقلَّب، ويسحب بين حميمها وفي جبالها النارية، والله سبحانه وتعالى يقول (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا) يقال أن في جهنم جبال عالية كلها نار، كل صخراتها صخرات نارية والإنسان المعذَّب يكلف بالصعود فيها وهو يعاني من الحرارة الشديدة والعذاب الشديد، ومُثقل بالقيود والسلاسل (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ *فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) ويتضرع الإنسان لا ينفعه التضرع (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا) يصرخون ويتقلبون من شدة العذاب والألم لابسين ثياباً قطعة من نار، قطعت لهم ثياب من نار، يصرخون وينادون الله (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) لأنهم يعرفون ما الذي أوصلهم إلى هناك، ما عملوه في الدنيا (نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) يرد الله عليهم (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) قد أعطاكم الله الفرصة الكافية، وعَمَّركم وقتاً كافياً للتذكر والإعتبار والإهتداء (وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا) ذوقوا هذا العذاب فأنتم من ظلمتم أنفسكم وأوصلتموها إلى ما وصلت إليه (فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) وهكذا يستمرون في العذاب ويغتسلون هنا (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ *يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) عندما يغتسلون نظافة كاملة يذاب الجلد وأجواف الإنسان، وجوف الإنسان (يُصْهَرُ بِهِ) يذاب بذلك الحميم الذي يصب من فوق رؤوسهم (مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) عذاب شديد، وألم دائم، وهوان، وشقاء، وعناء ليس له مثيل ولا نظير، يتمنون الموت الموت الذي كان في الدنيا أكبر ما يمكن أن يخيف الإنسان، هناك يصبح أمنية يصبح مطلباً يطلبونه يرغبون به يتمنونه، فلا يجابون إلى ذلك (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ) خازن النار (لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) ليميتنا ليقضي علينا ربك (قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) لا موت، بل استمرارٌ في العذاب، عندما لا يستجيب الله لهم لا ترحمهم ملائكة العذاب ولا ترأف بهم، لا يجابون إلى طلبهم بالموت، يحاولون الخروج فيتحركون في عالم جهنم في رحلة من السفر المضني بين العذاب في جبال جهنم، في وديانها في حميمها مثقلون بالقيود والسلاسل، وتبدأ رحلة طويلة من العذاب والله أعلم لكم ملايين من السنين، وعندما يحدوهم الأمل بأنهم قد اقتربوا من أطراف جهنم، إذا بالملائكة يأتون، ماذا تكون النتيجة.؟ (وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ *كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا) فتسوقهم الملائكة ضرباً شديداً بمقامع الحديد وتسحبهم في النيرات وتعيدهم إلى حيث كانوا في مواقعهم من جهنم (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ).
    وهكذا عذاب بكل أشكال العذاب، بكل أنواع العناء على أشد ما يكون، وأسوأ ما يكون، وبخلود ليس له نهاية ليس له وقت معدود، ولطالما كرر القرآن الكريم التأكيد على ذلك بعبارة (خَالِدِينَ فِيهَا) وعبارة (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يقول في آية أخرى (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا) عذاب مستمر لا نهاية له ولا أمل في الخلاص منه.
    ولذلك هي كارثة كبيرة على الإنسان، ما أحوج الإنسان إلى أن يتذكر الآن في الدنيا وأمامه الفرصة سانحة، وأن يحاسب نفسه، وأن ينظر ما الذي قدَّم وما الذي يعمل، الله ينادينا في كتابه الكريم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ) ولتنظر نفس ما قدمت لغد الكثير من الناس لا يحسب في دائرة اهتمامه أن ينظر في واقعه، ماذا يعمل وإلى أين المصير، أن يتحقق من الطريق التي يسلكها، تحقق من أعمالك، حاسب نفسك قبل الحساب يوم الحساب وقبل سوء الحساب، تحقق من الإتجاه الذي أنت فيه من المواقف التي تتبناها، أنت بمواقفك بأعمالك بتوجهك في الحياة الطريق التي تسلكها لها نهاية، لها نهاية والطريق المضمونة الطريق التي هي توصل إلى نتيجة محسومة يطمئن الإنسان إليها هي هدى الله، إتباع كتاب الله، الإعتصام بالله الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى.
    فما أحوجنا أيها الإخوة الأعزاء كمؤمنين إلى أن نستذكر وأن نعتبر وأن نلتفت إلى نداءات الله المتكررة في كتابه الكريم ومنها هذا النداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)
      (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا *إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)

                    نسأل الله أن يجعلنا وإياكم في هذا الشهر الكريم من عتقاءه من النار، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
    اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.
    والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

التعليقات مغلقة.