المساعدات الإنسانية.. القناع الزائف للقوة الناعمة الأمريكية وأداة الهيمنة الخارجية

صنعاء سيتي | تقرير خاص

 

لم تعد المساعدات الإنسانية في المشهد الدولي المعاصر فعلاً خيرياً محايداً أو استجابة أخلاقية مجردة لمعاناة الشعوب، بل غدت – في ظل هيمنة الغرب الرأسمالي – إحدى أخطر أدوات القوة الناعمة التي تُدار بعقلية المصالح وتُسخَّر لخدمة الأجندات السياسية والأمنية.. وفي مقدمة الدول التي أحكمت توظيف هذا المسار، تبرز الولايات المتحدة الأمريكية بوصفها النموذج الأكثر تنظيماً وجرأة في تحويل الإغاثة والتنمية إلى وسائل اختراق وتأثير وإعادة تشكيل للقرار الوطني في الدول المستهدفة، تحت عناوين براقة من قبيل «الدعم الإنساني»، «مكافحة الفقر»، و«حماية المدنيين».

ومن خلال قراءة التجربة اليمنية، إلى جانب شواهد دولية واسعة، تتكشف حقيقة هذا التوظيف السياسي، وهي الحقيقة التي حذّر منها مبكراً الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي، وواصل السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي تفكيكها وفضحها، وتقديم رؤية سيادية عملية لمعالجة الملف الإنساني بعيداً عن الابتزاز والتبعية.

ينطلق هذا التقرير من ثلاثة أبعاد مترابطة: “المشكلة والتشخيص”، “الشواهد والوقائع”، و”الرؤية القرآنية للمعالجة”، ليقدّم قراءة نوعية شاملة لواحد من أخطر ملفات الصراع المعاصر.

حين تتحول الإنسانية إلى سلاح.. المساعدات كمدخل للهيمنة والسيطرة

 القوة الناعمة.. الإطار النظري للتدخل الأمريكي

يُعرَّف مفهوم القوة الناعمة بأنه «القدرة على تحقيق الأهداف عبر الجذب والتأثير بدلاً من الإكراه العسكري المباشر»، وتشمل أدواتها الثقافة، والإعلام، والدبلوماسية، والمنظمات غير الحكومية، والمساعدات الإنسانية والتنموية. وقد أثبتت الدراسات الاستراتيجية الغربية نفسها أن الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب الباردة، اعتمدت هذا النمط لتعويض كلفة التدخل العسكري المباشر، أو لتهيئة الأرضية السياسية له، وبناء نفوذ طويل الأمد داخل المجتمعات المستهدفة.

وتُعد المساعدات الإنسانية الأداة الأكثر حساسية وفاعلية ضمن منظومة القوة الناعمة، لارتباطها المباشر بحياة الناس واحتياجاتهم الأساسية من غذاء ودواء وخدمات، ما يجعلها قابلة للتحويل إلى وسيلة ضغط وابتزاز سياسي شديد الخطورة، خاصة في الدول التي تعاني الحروب والحصار والأزمات الاقتصادية.

من الإغاثة إلى التبعية

تتحول المساعدات من استجابة طارئة لمعاناة إنسانية إلى آلية إدارة للأزمات لا حلٍّ لها، ومن وسيلة إنقاذ إلى أداة سيطرة ناعمة تُنتج التبعية، وتُضعف الدولة الوطنية، وتُعيد تشكيل الوعي الجمعي بما يخدم مصالح المانح. وهنا لا تُقاس «الإنسانية» بحجم ما يُقدَّم، بل بشروطه ونتائجه ومسارات توظيفه.

شواهد وأرقام ووقائع تفضح زيف “الإنسانية الأمريكية”

أرقام تكشف حجم النفوذ

تشير البيانات الرسمية الأمريكية إلى أن واشنطن خصصت في السنوات الأخيرة قرابة 100 مليار دولار سنوياً كمساعدات خارجية بمختلف أشكالها (إنسانية، تنموية، صحية، أمنية، وعسكرية)، شملت نحو 175 دولة وإقليماً.. وتتركز النسبة الأكبر من هذه الأموال في دول:

  • تشهد نزاعات وحروباً.
  • تقع ضمن مناطق التنافس الدولي.
  • تمتلك أهمية جيوسياسية أو أمنية خاصة.

وتكشف هذه الأرقام أن المساعدات ليست عملاً إنسانياً عشوائياً، بل جزءاً من هندسة سياسية دقيقة تخدم المصالح الأمريكية العالمية.

كيف تُسيَّس المساعدات؟

تُدار المساعدات الأمريكية عبر مسارات متداخلة، أبرزها:
  • الاشتراط السياسي: ربط استمرار المساعدات بمواقف سياسية أو تنازلات سيادية.
  • التحكم في التدفق: استخدام سلاح الإيقاف أو التقليص كأداة عقاب.
  • بناء التبعية: خلق اعتماد طويل الأمد على التمويل الخارجي بدلاً من بناء القدرات المحلية.
  • الاختراق المؤسسي والمجتمعي: النفاذ إلى مؤسسات الدولة والمجتمع عبر منظمات ممولة أمريكياً.

الوكالة الأمريكية للتنمية (USAID).. الذراع الأخطر

تمثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية النموذج الأوضح لتسييس العمل الإنساني. فمنذ نشأتها في أواخر خمسينيات القرن الماضي، ارتبط دورها عضوياً بالسياسة الخارجية الأمريكية، وبمشروع الهيمنة بأسلوب جديد ظاهره البناء والإعمار وباطنه السيطرة والاختراق.

وتكشف التجارب الدولية – من فنزويلا وروسيا وكوبا وبوليفيا، إلى العراق وفلسطين – أن الوكالة عملت كذراع استخباراتي ناعم، موّلت شبكات «مجتمع مدني»، وصنعت «حكومات ظل»، ودعمت انقلابات سياسية، وروّجت لتعريفات مشوهة للإرهاب تُجرّم المقاومة وتُحصّن الاحتلال.

اليمن.. النموذج الفاضح

في اليمن، قدّمت الولايات المتحدة نفسها كأحد كبار «المانحين» إنسانياً، متحدثة عن مساعدات تجاوزت مليار دولار خلال سنوات العدوان، في وقت كانت فيه:

  • الداعم السياسي والعسكري المباشر للعدوان والحصار.
  • تستخدم الملف الإنساني كورقة ضغط تفاوضية.
  • تعلّق برامج غذائية وصحية حيوية عند أي موقف سيادي.

كما كشفت الوقائع أن الوكالة الأمريكية للتنمية اخترقت مناطق مختلفة، وقدّمت معلومات وإحداثيات، وساهمت في إدخال أسلحة، وركّزت مشاريعها في خلفيات الجبهات العسكرية، وموّلت قيادات محلية لإنتاج الحياد وتشويه الوعي، في مقابل إضعاف الزراعة والقطاعات الإنتاجية، ومنع زراعة محاصيل استراتيجية كالقمح، وضرب البن اليمني، المنتج القومي الأهم.

تناقض الخطاب والممارسة

بينما تنصّب واشنطن نفسها «حارساً للإنسانية»، يكشف سجلّها الدموي – من هيروشيما وناغازاكي، إلى دعم الاحتلال الصهيوني، وإشعال الصراعات، وقمع الحريات داخلها – أن «الإنسانية الأمريكية» تُدار بعقلية القوة والمصلحة، لا بمنطق القيم.

التحرر من الابتزاز.. الرؤية القرآنية وبناء الحل الإنساني السيادي

تشخيص قرآني مبكر

قدّم الشهيد القائد السيد حسين بدرالدين الحوثي رضوان الله عليه، قراءة قرآنية عميقة لملف المساعدات والقروض والتنمية المزعومة، محذّراً من خطورة “شراء المواقف والسيادة بثمن قليل”، ومؤكداً أن القبول بالمساعدات المشروطة مدخل لفقدان الاستقلال، وأن القروض الربوية والمشاريع غير الإنتاجية تُكرّس التبعية وتحوّل الشعوب إلى أسواق استهلاكية.

وأوضح الشهيد القائد أن الغرب، بقيادة أمريكا، يمنع أي تنمية حقيقية في الزراعة والصناعة، ويغرق الدول بالقروض والمساعدات التي لا تؤمّن الغذاء ولا تبني اقتصاداً، بل تُحمّل الأجيال أعباءً ثقيلة، وتجعل «التنمية» شعاراً لتكريس العبودية الحديثة.

من الوعي إلى السيادة

واصل السيد القائد عبد الملك بدرالدين الحوثي -يحفظه الله- تقديم معالجات عملية، تقوم على أسس سيادية واضحة، أبرزها:

  • وقف العدوان ورفع الحصار كشرط لأي معالجة إنسانية حقيقية.
  • رفض تسييس الإغاثة وفضح أي اشتراطات سياسية أو أمنية.
  • إدارة وطنية مستقلة للعمل الإنساني تضمن وصول المساعدات دون ابتزاز.
  • تعزيز الاعتماد على الذات والاكتفاء الذاتي في الغذاء والدواء والاقتصاد.
  • بناء الوعي المجتمعي من خلال كشف حقيقة أدوات القوة الناعمة الأمريكية.

وأكد السيد القائد أن كرامة الشعوب لا تُشترى بالمساعدات، وأن الحل الإنساني الحقيقي يبدأ من إنهاء أسباب المعاناة لا من إدارتها.

الوعي والاستقلال وبناء القدرات الذاتية

تكشف التجربة، ومعها شواهد متعددة، أن المساعدات الإنسانية الأمريكية ليست سوى امتداد ناعم لمشروع الهيمنة والاستعمار الحديث، تُستخدم لإدارة الأزمات لا حلّها، ولإخضاع الشعوب لا إنقاذها.

وفي المقابل، تقدّم الرؤية القرآنية وقيادة الثورة نموذجاً تحررياً يعيد تعريف العمل الإنساني بوصفه حقاً سيادياً لا منّة سياسية، ويؤسس لمعالجة حقيقية تنطلق من الوعي والاستقلال وبناء القدرات الذاتية.

هنا، لا تكون المعركة على كيس طحين أو عبوة دواء، بل على القرار الوطني والكرامة والسيادة.

 

*نقلاً عن موقع 21 سبتمبر

التعليقات مغلقة.