خرائط تُرسم في واشنطن.. وتُقلب في ساحات المقاومة

صنعاء سيتي | مقالات | شاهر أحمد عمير

 

منذ اللحظة التي بدأت فيها الولايات المتحدة وبريطانيا بإعادة صياغة مستقبل المنطقة وفق رؤية جديدة، بدا واضحًا أن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” ليس مُجَـرّد مبادرة سياسية، بل محاولة شاملة لإعادة تشكيل الهوية والسلطة والوعي في العالم العربي؛ فبعد عقود من سياسات الهيمنة التي بدأت باتّفاقية سايكس-بيكو، تستكمل القوى الغربية ومعها الكيان الإسرائيلي محاولة إعادة رسم الجغرافيا بما يخدم مصالح الاحتلال، ويضمن استمرار تفوقه العسكري والسياسي.

وهكذا تُدفع الشعوب العربية، مرة أُخرى، نحو مسار من التفتيت والصراعات الداخلية لتسهيل فرض واقع إقليمي جديد تُصبح فيه (إسرائيل) محور التحكم والقرار.

لكن النسخة المعاصرة من هذا المشروع لم تعتمد فقط على تغيير الحدود أَو تفكيك الجيوش، بل ذهبت إلى استهداف الوعي ذاته.

فالغرب يسعى إلى صناعة شرق أوسط تُشرعن فيه الأنظمة التطبيع، ويُقدَّم الاحتلال كحليف طبيعي، بينما تُصوَّر المقاومة كخطر يجب استئصاله.

وفي هذا السياق لعبت واشنطن ولندن دور المهندس السياسي، وتولى الكيان الصهيوني الجانب الأمني والاستخباراتي، فيما جرى تسليم السعوديّة والإمارات مهمة تمرير التطبيع وإعادة تعريف العدوّ والصديق، لتصبح (إسرائيل) شريكًا معلنًا، وفلسطين عبئًا يُراد التخلص منه.

هذا المشروع لا يقتصر على الأدوات الدبلوماسية، بل يعتمد على سياسة إنهاك المنطقة عبر إشعال الحروب.

من العراق إلى سوريا، ومن ليبيا إلى اليمن، تكرّر المشهد ذاته: تدمير، فوضى، ثم تدخل خارجي يعرض “الحل” الذي يكرّس الهيمنة.

لقد كانت تلك الصراعات وسيلة استراتيجية لإضعاف الدول المحورية وتحويل الشعوب إلى كيانات منهكة، تبحث عن أي استقرار مهما كان الثمن، حتى وإن كان على حساب السيادة والكرامة.

وفي قلب هذا المخطّط تقف القضية الفلسطينية؛ باعتبَارها عقبة أَسَاسية أمام اكتمال الشرق الأوسط الجديد.

فوجود مقاومة صلبة، أَو شعوب متمسكة بحقوقها، يجعل المشروع غير قابل للتنفيذ.

لذا عملت الولايات المتحدة و(إسرائيل) على تحويل فلسطين من قضية جامعة إلى ملف إداري، ودفع الأنظمة الضعيفة إلى الادِّعاء بأن المقاومة “تعطّل السلام”، بينما الاحتلال، في رواية المطبعين، قادر على جلب الازدهار والاستقرار.

إلا أن حساباتهم كانت قاصرة.

فالمنطقة لم تعد كما كانت قبل عقود.

فقد نشأ في المقابل تيار واسع يعرف اليوم بمحور المقاومة، وهو تيار لا يقوم على تحالف سياسي تقليدي بقدر ما يقوم على وعي موحد بطبيعة الصراع وبخطورة المشروع الأمريكي-البريطاني-الإسرائيلي.

هذا التيار، الممتد من فلسطين ولبنان إلى العراق وسوريا واليمن، أدرك منذ البداية أن الشرق الأوسط الجديد ليس مشروع سلام، بل مشروع إخضاع شامل يستهدف الأُمَّــة بأكملها.

وقد أثبتت التجارب أن محور المقاومة كان القوة الوحيدة التي أفشلت الكثير من حلقات المشروع.

فالمقاومة في لبنان، وصمود الشعب الفلسطيني، والتضحيات في سوريا والعراق، وحضور اليمن القوي في البحر الأحمر، كلها عوامل أربكت حسابات مهندسي المخطّط.

واليمن، على وجه الخصوص، قدّم نموذجًا استثنائيًّا في تحويل الحصار والعدوان إلى قوة استراتيجية قلبت موازين الردع، وأثبتت أن الإرادَة الشعبيّة قادرة على مواجهة أخطر المشاريع الدولية.

وقد جاء خطاب السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي ليؤكّـد بوضوح أن المشروع الأمريكي-البريطاني-الإسرائيلي-السعوديّ-الإماراتي يستهدف إخضاع المنطقة بالكامل، وأن مواجهته ليست مُجَـرّد موقف سياسي، بل معركة وجودية تحدّد مصير الأُمَّــة.

فتمسك اليمن بخيار المواجهة كشف هشاشة المشروع وكشف استحالة تمريره في ظل وجود شعوب تعرف عدوها وتمتلك القدرة على الصمود.

ومع كُـلّ خطوة تطبيع تقدمها الأنظمة، ترتفع درجة الوعي الشعبي الذي يدرك أن سقوط فلسطين يعني سقوط المنطقة بأكملها، وأن “الشرق الأوسط الجديد” ما هو إلا نموذج مستنسخ من التاريخ الاستعماري القديم بوجوه حديثة.

ولذلك فشل المخطّط في التحول إلى واقع، لأن الشعوب – وليس الأنظمة – هي التي تصنع المسار النهائي للصراع.

إن مشروع الشرق الأوسط الجديد لا يريد تغيير خرائط فحسب، بل يريد خلق شرق أوسط بلا سيادة، تتحكم فيه (إسرائيل) سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا، بينما تُترك الشعوب في دائرة التبعية.

لكن ما دامت هناك إرادَة صلبة ومحور مقاومة يرفض الإخضاع، فإن الخرائط التي تُرسم في واشنطن ستظل مُجَـرّد خطط على الورق، تُقلب في ساحات المواجهة، وتُحبطها الشعوب التي تدرك أن السيادة لا تُمنح، وأن الحرية تُنتزع انتزاعًا.

فالشرق الأوسط الحقيقي ليس ذلك الذي تحاول القوى الكبرى فرضه، بل ذاك الذي ترسمه تضحيات المقاومين ووعي الشعوب الحرة.

التعليقات مغلقة.