قراءة في خطاب القائد.. من ثنائية الخير والشر إلى ثقافة الشهادة كمنهج حياة
صنعاء سيتي | مقالات | فهد شاكر أبوراس
في خطابٍ محوري ألقاه بمناسبة الذكرى السنوية للشهيد، قدّم قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي -حفظه الله- رؤيةً فلسفيةً عميقةً لفهم الصراع الكوني الممتد عبر التاريخ: صراعٌ بين قوى الخير التي تنبني على العدل والرحمة، وقوى الشر التي تتحَرّك بمنظومة قيمية قائمة على الظلم، والاستعباد، وإخراج الناس من رحمة الإنسانية إلى قسوة التوحش.
لم يكتفِ القائد بوصف الواقع، بل قدّم البديل الإلهي الواضح: طريقٌ واحدٌ لا ثانِي له، وهو الجهاد في سبيل الله، لا كخيارٍ تكتيكي، بل كمنهجٍ وجوديٍّ يُرسي قيم الخير والعدل في واقع الحياة.
الشهادة: ليست هروبًا من الحياة، بل جوهرها
من أبرز ما تميّز به خطاب القائد هو تقويم المفاهيم المغلوطة التي تحاول بعض القوى ترويجها عن الشهادة، كأنها ثقافة بديلة عن الحياة أَو انتحار باسم الدين.
فالشهادة في سبيل الله، كما بيّن القائد، ليست مُجَـرّد استشهاد جسدي، بل هي حالةٌ نابضة من الحياة الكريمة، تحمي الأُمَّــة من الفناء المصحوب بالذل، وتشكّل درعًا واقيًا في مواجهة “ثقافة التدجين” التي تسعى قوى الاستكبار العالمي إلى ترسيخها في وعي الأُمَّــة.
والمفارقة أن الموت حتمٌ على كُـلّ إنسان، لكن الفرق بين موتٍ ذليلٍ بلا معنى، وشهادةٍ تُنتج حياةً خلاقة، هو ما يصنع الفارق بين الأُمَّــة الحية والأمة الميتة.
ففي حين تقدّم ثقافة التدجين الموت والقتل دون ثمرة، تقدّم الشهادة حياةً تدفع الشرّ عن الناس، وتصدّ الطغيان، وتحمي الكرامة.
درس التاريخ: الاستسلام لا يُجدي، بل يُدمّـر
استحضر القائد الذاكرة التاريخية للأُمَّـة لتثبيت هذه الحقيقة؛ فالمراحل التي تخلّت فيها الأُمَّــة عن الجهاد وترسّخت فيها كراهية الشهادة، كانت ذاتها المراحل التي تعرّضت فيها لأقسى النكبات، وخسرت الملايين من أبنائها وهم في حالة استسلام.. لا في موقف قتالٍ مشروع، ولا في مواجهة بطولة.
وأكّـد القائد بالدليل الصارخ: اعتراف الأمريكان أنفسهم بأنهم قتلوا ما يقارب ثلاثة ملايين إنسان خلال العقدين الماضيين، معظمهم من أبناء الأُمَّــة، قُتلوا وهم في “غير موقف” – أي بلا مقاومة، بلا كرامة، بلا عدّة.
هذا ليس تفخيمًا، بل تذكيرٌ بأن ثمن الاستسلام دائمًا أكبر من ثمن المواجهة.
الشهادة: استثمار للرحيل المحتوم
القائد لم يقدّس الموت، بل قدّس المعنى الذي يُخلَق من الموت.
فالشهادة ليست عملًا عشوائيًّا، بل استثمار واعٍ للرحيل المحتوم في واقع البشر، مرتبطةٌ بقضيةٍ عادلةٍ وموقفٍ شريف.
من خلالها، يصبح الشهيد سدًّا منيعًا يحمي الناس، ويردّ الأذى، ويواجه المجرمين.
في المقابل، تتحَرّك قوى الباطل -أمريكا، وكيان الاحتلال، وأذنابهما- بأهداف شيطانية وممارساتٍ إجرامية، تهدف إلى استعباد الناس من دون الله، عبر نهب الثروات، واحتلال الأوطان، وإخضاع الشعوب.
الروح المعنوية: سرّ التمكين الإلهي
أكّـد القائد أن المجتمعات التي تحمل روحية الجهاد والاستشهاد هي الأعظم عطاءً، والأكثر إسهاما في إعلاء كلمة الله.
ففيها، ترتفع الروح المعنوية، وتتحول الإرادَة إلى فولاذٍ لا ينكسر أمام التهديدات والمكائد.
أما المجتمعات التي تعيش في حالة ذلّ وتهويل، فتقيّد نفسها بأغلال الخوف، وتظن أن الاستسلام يجنّبها الخطر، بينما هي في الحقيقة تُعرّض نفسها لأكبر المخاطر، لأن العدوّ لا يرحم الضعيف، بل يزداد جُرْأةً على من يهابه.
والتاريخ شاهد: كم من شعوبٍ دفعت الثمن الباهظ لأنها تهيّبت من الشهادة، وتخلّت عن واجب المواجهة!
المسيرة القرآنية: نموذج الانتصار الإلهي
في مقابل هذا الواقع البائد، قدّم القائد نموذج “المسيرة القرآنية” كتجربةٍ حيّةٍ على أن الأُمَّــة، إذَا تحَرّكت في سبيل الله وصدقت وتضحّت، فَــإنَّالله ينصرها.
هذه المسيرة، رغم كُـلّ الحصار والعدوان، زادت بمعونة الله عزًّا وتمكينًا ونصرًا، بينما كان الأعداء يأملون أن يكسروا إرادتها.
وهنا تتجلى السنة الإلهية: النصر لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجةٌ حتميةٌ لتحقّق شروطه: الصدق، والتضحية، والجهاد.
والهزيمة ليست قدرًا، بل نتاج طبيعي للاستسلام، والخوف، والتراجع عن المسؤولية.
الخيار الوحيد: ثقافة الشهادة أَو الذلّ الأبدي
وختم القائد خطابه برسالةٍ واضحةٍ لا لبس فيها: الخيار الوحيد أمام الأُمَّــة لتحقيق العزة والكرامة والنصر هو اعتماد ثقافة الجهاد والاستشهاد كمنهج حياة، ورفض ثقافة الخوف والتدجين التي تُروّجها قوى الاستكبار.
فالشهادة ليست نهاية، بل بداية حياة جديدة – حياة العزة، والكرامة، والحرية.
وهي الضمانة الوحيدة لتحرير الإرادَة الإنسانية من عبودية الطغاة، ولإقامة العدل الذي هو غاية الوجود الإنساني على هذه الأرض.
خاتمة: الشهيد نبراس الأُمَّــة
هذا هو الدرس الأعمق الذي تتركه ذكرى الشهيد في وجدان الأُمَّــة: أن الموت في سبيل الله ليس انطفاءً، بل انبعاث.
وأن الدم الذي يُسفك اليوم هو بذرة النصر غدًا.
والرسالة التي يجب أن تظل حيّةً في ضمير كُـلّ حرّ ينشد الكرامة: لا عزةَ إلا بالشهادة، ولا نصرَ إلا بالجهاد، ولا حياةَ إلا بالإيمان.
التعليقات مغلقة.