في الذكرى السنوية للشهيد.. دماءٌ تروي شجرة العزة وتثمر النصر

صنعاء سيتي | مقالات | سند الصيادي

 

ها نحن نعيش ذكرى سنوية جديدة لشهدائنا الأبرار، أُولئك الذين باعوا أنفسهم لله فاشتراها منهم بأعظم ثمن: الجنة ورضوانه.. وفي هذه الأيّام المباركة، نستلهم من سيرتهم دروسًا، ومن تضحياتهم قوة، ومن مسيرتهم نورًا نهتدي به في ظلمات هذا الزمان.

وفي زمن الفتن والعواصف، حَيثُ تتكاثر المؤامرات على أمتنا من كُـلّ حدب وصوب، تبرز الحاجة الملحة إلى استحضار مفهوم الشهادة في الرؤية القرآنية، ليس كخيار انكسار، بل كمشروع نهضة، وليس كمصير محتوم، بل كخيار حر يرفع الأُمَّــة من وهدة الذل إلى ذروة العزة.

 

المشهد الراهن.. تفكيك للهُوية وتشتيت للوعي

تمر أمتنا بمرحلة خطيرة، يُعمل فيها على تفكيك بلدان المنطقة إلى كيانات صغيرة متناحرة، تحت عناوين طائفية وسياسية ومناطقية.

والعجيب أن الجماهير التي فقدت التفاعل مع قضاياها الكبرى، تتحَرّك بحماسة حين يكون العنوان طائفيًّا، بينما تتقاعس عن مواجهة العدوّ الإسرائيلي رغم ظلمه وطغيانه.

ولم يعد الخطر مقتصرًا على استغلال الانقسامات التقليدية، بل امتد إلى حرب التشويش الفكري عبر منصات التواصل الاجتماعي، حَيثُ تُحوَّل القضايا البسيطة والشخصية إلى أزمات كبرى، وتُستنزف الطاقات في معارك هامشية، ويغرق المجتمع في تفاصيل تافهة تبعده عن قضاياه المصيرية.

 

العدوّ يستثمر.. ونحن نغرق في الجزئيات

يرى العدوّ الإسرائيلي في هذا الواقع المأزوم فرصة ذهبية ليبعد الناس عن قضاياهم المصيرية، ويمنعهم من الاتّجاه نحو الحلول الصحيحة.

إنه يستثمر في تغييب الوعي، وتضييع البوصلة، وتفريغ القضية من مضمونها.

وفي خضم هذه العاصفة، تبرز سياسة “التجنيس” كأحد أخطر أدوات الاختراق، حَيثُ تُمنح الجنسيات لليهود الصهاينة في بعض البلدان العربية، بل وتُمنح لهم حقوق تفوق حقوق المواطن العربي.

ويتم تمكينهم في المراكز الاقتصادية والإدارية الحيوية، في مشهد يذكرنا بالأساليب نفسها التي نفذوها في فلسطين.

ولم يتوقف الأمر عند حَــدّ “التجنيس”، بل امتد إلى “شراء الأراضي” في أطهر البقاع، في المدينة المنورة ومكة المكرمة، في سيناريو مريب يعيد إلى الأذهان الخطة نفسها التي بدأوا بها في فلسطين: شراء الأرض أولًا، ثم التمدد والنفوذ، ثم السيطرة الكاملة.

 

الشهادة.. المفهوم الذي يعيد للوجود معناه

في مواجهة هذه التحديات المصيرية، يبرز مفهوم الشهادة في الرؤية القرآنية كخيار استراتيجي، وكمشروع خلاص.

فالشهادة في هذا الإطار ليست مُجَـرّد استشهاد جسدي، بل هي: حصن للأُمَّـة من الضياع والتمييع والانحراف، ومدرسة تربي الإنسان على الإباء والعزة والكرامة، وسلاح يكسر حاجز الخوف من جبروت الأعداء، ومشروع يرفع الأُمَّــة إلى مستوى المواجهة المصيرية.

 

محور المقاومة.. شواهد حية على صحة الخيار

لقد ترجمت جبهات المقاومة هذا المفهوم إلى واقع ملموس، وأثبتت أن دم الشهيد ليس دم فناء، بل هو وقود النصر وبذار التحرير.

فالجبهة اللبنانية قدمت أروع الأمثلة في التضحية والإسناد، ودخلت معارك شديدة مع العدوّ، وكانت في طليعة العطاء والتضحيات، وألحقت بالعدوّ خسائر كبيرة.

أما الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فقد خاضت مواجهات مباشرة في عمليات “الوعد الصادق”، التي مثلت مستوى غير مسبوق في تاريخ الصراع، ووصلت المواجهة إلى حرب مفتوحة استمرت اثني عشر يومًا.

فيما تميز موقف الجبهة اليمنية بالشمولية والثبات، ورغم بعد المسافة وتعقيدات المواجهة، جاء قرار حظر الملاحة على العدوّ الإسرائيلي في البحر الأحمر خطوة تاريخية أثرت بشكل كبير على اقتصاد العدوّ، وأجبرت ملايين المستوطنين على الهرب إلى الملاجئ.

 

دماء الشهداء تعيد البُوصلة

دماء الشهداء هي التي تحفظ للأُمَّـة كرامتها، وتصون هويتها، وتمنع ضياعها في متاهات التطبيع والتفكيك.

فالشهادة ليست نهاية، بل بداية لنهضة، وليست انكسارا، بل انطلاق نحو الحرية.

لقد جاء شهداؤنا في زمن الغربة، زمن تداعت فيه الأمم على أمتنا، وزمن حاول الأعداء أن يطمسوا معالم هُويتنا، وأن يقتلعوا جذور إيماننا.

لقد شاءوا لأمتنا أن تكون أُمَّـة مستهلكة، تابعة، منقادة، لا تملك من أمرها شيئًا، لكن شهداءنا قالوا كلمتهم، واختاروا طريق الشهادة، فكانوا شموعًا تضيء درب الأُمَّــة، وتنير طريق الحرية والكرامة.

 

شهادة في زمن التطبيع.. دم يكتب مجد الأُمَّــة

في زمن أصبحت فيه بعض الأنظمة العربية تتسابق إلى التطبيع مع العدوّ الصهيوني، وتسارع إلى منح الجنسيات لليهود الصهاينة، وتمكينهم من النفوذ في كُـلّ المجالات، يأتي شهداؤنا ليرسموا بدمائهم الطاهرة معنى آخر للوجود، معنى يتجاوز الخنوع والاستسلام.

إنهم يذكروننا بأن فلسطين ليست أرضًا للتفريط، وأن القدس ليست مسجدًا للمساومة، وأن الأقصى ليس معلقًا في هواء النسيان.

دماء الشهداء هي التي تحفظ القضية، وتحرس المقدسات، وترفع لواء الجهاد في وجه كُـلّ محاولات التطبيع والخيانة.

 

من اليمن.. تشرق شمس المقاومة

ومن أرض اليمن العزيز، أرض الإيمان والحكمة، تنطلق اليوم أقوى رسائل المقاومة.

لقد أثبت شعبنا اليمني، بقرار حظر الملاحة في البحر الأحمر، وبالعمليات العسكرية في العمق الفلسطيني المحتلّ، أن الأُمَّــة لم تمت، وأنها قادرة على أن تقول كلمتها، وأن تفرض وجودها، وأن تشارك في معركة المصير.

لقد كانت عملية “طوفان الأقصى” و”معركة الفتح الموعود والجهاد المقدَّس” وما تلاها من عمليات إسناد يمنية، محطة فارقة في تاريخ الصراع مع العدوّ الصهيوني.

لقد أرغمنا العدوّ على أن يحسب ألف حساب لشعب كانوا يظنونه ضعيفًا وفقيرًا.

لقد أثبتنا أن الإيمان أقوى من كُـلّ ترسانات الأسلحة، وأن العزيمة أصلب من كُـلّ الحصون.

 

شهداؤنا.. مدرسة في القيم والصفات

وفي ذكرى شهدائنا، نستذكر تلك الصفات التي جعلت منهم نماذج فريدة، ونبراسًا نهتدي به.

فبالروح الإيمانية: عاش شهداؤنا بالقرآن، وتحَرّكوا بتوجيهاته، واثقين بالله وحده، متوكلين عليه.

وبالإخلاص والتجرد: لم يبحثوا عن منصب، ولم يطلبوا جاهًا، بل قدموا أنفسهم في سبيل الله طلبًا لرضوانه.

وفي الصبر والثبات: تحملوا المشاق، وواجهوا التحديات، وصبروا على الشدائد، فكانوا من الصابرين الذين ينتصرون.

أما عن الحكمة والرشد: فقد تحَرّكوا ببصيرة، وتصرفوا بحكمة، فلم تكن حركتهم عشوائية، ولا مواقفهم انفعالية.

وبحسن الخلق عُرفوا، وبالرفق والتواضع وحسن المعاشرة، فجمعوا بين قوة الإيمان ورقة التعامل.

 

دم الشهيد.. يكتب مستقبلًا مشرقًا

إن دم الشهيد ليس دمًا ضائعًا، بل هو وقود للأُمَّـة، وبذار يثمر خيرًا، ونور يضيء الطريق.

لقد رأينا كيف تحولت دماء شهدائنا إلى طاقات إيجابية، وإلى إنجازات ملموسة على الأرض.

في اليمن، تحولت الدماء إلى قدرات عسكرية متطورة، إلى صواريخ تُصنّع محليًّا، إلى طائرات مسيرة، إلى إرادَة لا تلين.

لقد أصبح اليمن، برغم الحصار والعدوان، يصنع من إيمانه قوة، ومن عزه قدرة، ومن صبره انتصارا.

 

الشهادة نهضة.. والدم الطاهر يصنع النصر

هل تؤدي الشهادة إلى الضعف والوهن؟! إنها لفتة تستصرخ العقول والقلوب، وتستحضر سنة الله في كونه، وتاريخ الأمم مع ربها.

لو كانت الشهادة سبيلًا للضعف لكانت أمتنا قد اندثرت منذ اللحظة الأولى التي ارتقى فيها شهيد القرآن، السيد حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- ورفاقه الأبرار.

لكنها سنة الله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.

 

من رحم التضحيات.. تولد القوة

لقد أثبتت مسيرتنا الجهادية عبر السنين أن دم الشهيد ليس دم فناء، بل هو دم بعث وإحياء.

فمن لحظة الاستشهاد الأولى، انطلقت مسيرتنا تنمو وتتعاظم، وتُخرِج لنا جيلًا قرآنيًّا يحمل راية التوحيد، ويصنع بإيمانه معجزات العصر.

وها هو اليمن العزيز، بفضل الله ثم بتضحيات شهدائنا، يحقّق نقلة نوعية في مجال الصناعات الحربية، ليصبح البلد الأول عربيًّا في الإنتاج الحربي – من المسدس إلى الصاروخ، ومن البندقية إلى الطائرة المسيرة – كُـلّ ذلك بصناعة يمنية محضة وتطوير مُستمرّ لا يتوقف.

 

ثبات على المبدأ.. رفض للمساومات

ونظل بعون الله أوفياء لدماء شهدائنا، نقولها بصوت واحد: لا مساومة على مواقفنا المبدئية، ولا تفريط في ثوابتنا الإيمانية.

إننا شعب حر كريم، يتحَرّك بتعليمات الله، لا يخدعه بريق المصالح، ولا يركع لطغاة العصر ومجرميه.

ونرفض تلك النظرة البائسة التي يحملها من انقطع عن هدي القرآن وفقد الثقة بوعد الله، فاختار مسلك الخنوع والاستسلام.

إن دم الشهيد يصرخ في وجه كُـلّ محاولات الخذلان.

 

استمرار المسيرة.. بناء وتحرّر

ويجب أن يستمر توجّـهنا على أَسَاس هذا المنهج القرآني الرباني: إيمانًا وجهادًا، تحرّرا وبناءً.

ولا تعارض بين متطلبات البناء الداخلي وثوابت الجهاد والتحرّر، بل إن العناية بالإصلاح الإداري، والاهتمام بالجانب الاقتصادي، ومعالجة القضايا الاجتماعية، وإطلاق المبادرات المجتمعية – كُـلّ ذلك يشكل دعمًا لمسيرتنا، وتقوية لظهر الأُمَّــة.

 

وعد الله.. والحتميات الثلاث

ويظل وعد الله نبراس دربنا: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}، {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا}.

ومن هنا نستشرف حتميات المستقبل الثلاث:

الحتمية الأولى: زوال الكيان الصهيوني بهزيمة ونكران.

الحتمية الثانية: خسران كُـلّ من خضع للعدو وخان أمته ودينه.

الحتمية الكبرى: انتصار الذين استجابوا لله، ووثقوا به، وساروا على هديه.

فاللهم ارحم شهداءنا الأبرار، واشفِ جرحانا، وأطلق سراح أسرانا، وانصرنا على القوم الكافرين.

التعليقات مغلقة.