الشهيد الفريق الركن محمد عبدالكريم الغماري: مهندس الردع وروح العطاء.. سيرة قائدٍ خطّ بدمه معادلة النصر والسيادة

صنعاء سيتي | تقرير خاص

في زمنٍ ضاق فيه الأفق وتبددت خلاله بوصلة الكثيرين، ارتقى قائدٌ صنع من الثبات استراتيجيةً ومن الإيمان منهجًا للحرب والحياة.. الفريق الركن محمد عبد الكريم الغماري لم يكن مجرد اسمٍ على لائحة قادة؛ بل كان مدرسةً في القيادة، ومعادلةً في الردع، وصوتًا قرآنيًا يُنطقُ التكتيك ويُقوّي الإرادة. ارتحل وهو يؤدي واجبه في معركةِ إسنادٍ لغزة، ليخلّف وراءه إرثًا من الصمود والعلم والعملية العسكرية المبتكرة.

هذا التقرير يقصُّ مسار الرجل من نشأته إلى شهادته، ويقرأ بصماته العسكرية والسياسية والاستراتيجية التي جعلت من اليمن قوةً لا تُهمل في معادلات الصراع الإقليمي.

القائد الذي لم يولد بطواعية التاريخ بل صاغه بيده

ولد الشهيد الفريق الركن محمد عبدالكريم الغماري في 1983 في مديرية المدان بمحافظة عمران، ونشأ في أسرةٍ محافظَةٍ ملتزمةٍ بالقيم والإيمان؛ من هنا أخذ بداياته. لكن ما يميّز الغماري أنه لم ينتظر زوال الظلم أو تبدّل الأحوال ليتحوّل قائدًا: التحق بالمشروع القرآني منذ 2002، وبقيّ يخطّ طريقه عمليًّا بين جبهات صعدة وميادين المواجهة حتى صار اسمه عنوانًا للتخطيط الدقيق والجرأة الحكيمة. لم يتعلم قيادة الجيوش في الكليات الغربية ولكنه تخرّج في مدرسة الجهاد والإيمان، فأعطت تجربته قيمةً لا تُقاس بشهادات بل بوقائع ونتائج.

من الميدان إلى الأركان: محطات مسيرة قائدٍ مؤسس
  • 2002: انخراط مبكّر في المشروع القرآني، مشاركًا في العمل التوعوي والميداني.

  • 2004–2007: اعتقالات ومواجهات ضمن حروب الصمود في صعدة؛ عنفوان تجربةٍ جعلته قائداً صلباً.

  • 2014–2015: تصاعد دوره القيادي؛ عضوًا في اللجنة الأمنية العليا، ثم قيادياً للجبهات الحدودية، وما لبث أن عُيّن في 2016 رئيسًا لهيئة الأركان العامة بقرارٍ من رئيس المجلس السياسي الأعلى الشهيد صالح الصماد.

  • 2023: قاد تخطيط وتنسيق عمليات الإسناد لفلسطين، ووسع رقعة الفعل لتشمل ممرّ باب المندب والمواجهة البحرية والاستراتيجية.

  • 2025: ارتقى شهيدًا أثناء تأدية الواجب في ميدان المهمة المقدّسة، فكتب اسمه في سجلّ الشهداء القادة.

كل مرحلةٍ من هذه المحطات لم تكن مجرد رتبٍ وظيفية، بل خطواتٍ لبناء منظومة قتالٍ متكاملة توفّق بين الإرادة الوطنية والقدرة العملية.

مهندس منظومة الردع اليمنية: من التكتيك إلى المعادلة الاستراتيجية

الشهيد الغماري لم يكتفِ بقيادة العمليات؛ بل كان مهندسًا لتحوُّلٍ نوعي في القدرات اليمنية:

  • صناعة الاكتفاء الحربي المحلي: أحد روّاد برامج التصنيع العسكري المحلية، سعى لأن يخرج الجيش من تبعيّة السلاح إلى منظومة إنتاجٍ محلية تضمن الاستمرارية والقدرة على المواجهة.

  • إعادة هيكلة العمليات: أشرف على خطط تشغيلية وتكتيكات هجومية موحّدة أوصلت العمل العسكري إلى شكلٍ متكامل بين السلاح والقرار.

  • دمج الوسائط: من مهندسي دمج الصواريخ الباليستية، والطائرات المسيّرة، والزوارق البحرية ضمن منظومة عملياتية واحدة، ما وسّع دائرة الفعل اليمني إلى الممرات البحرية الاستراتيجية وعمق العدو.

  • استنزاف وتكتيك دقيق: جعل من اليمن ساحات ضغطٍ استراتيجية على خطوط إمداد العدو ومراكزه، فحوّل كل عمليةٍ إلى رسالةٍ سياسةٍ واقتصادية ونفسية في آنٍ واحد.

هذه الإضافات ليست مزايا تكتيكية فحسب، بل تغييراتٍ منهجية أثبتت تأثيرها في معادلات الردع الإقليمي.

قائد الميدان والوعي: مدرسةُ قيادةٍ قرآنيةٍ ثم عملية

القائد الغماري كان يربط بين الإيمان والعمل بثقةٍ نادرة: يرى أن القرآن منهج للمعركة كما هو منهج للحياة.. القيادة عنده ليست رتبًا تُعطى ولا كلمات تُلقى، بل موقف يُقدّم فيه القائد حياته قبل أن يطلب من غيره.. لذلك كان في مقدمة الصفوف دائمًا، حاضراً حيث الحاجة، مع صبرٍ وحكمةٍ تجعلان منه قدوةً يُحتذى بها.

في تكتيكاته:

  • يفضّل الغموض التكتيكي ويستثمره: إدارة المعلومات كانت جزءًا من المعركة؛ الإعلان عن الاستهداف أو النفي الخاطئ كان جزءًا من خريطة الردع.

  • يحوّل الإسناد إلى قدرةٍ استراتيجية: لم يكن دعم غزة مجرد شعارٍ بل خطة تكاملية استلزمت سواحل وبحر وجو وميدانًا مشتركا مع محور المقاومة.

الإسناد الفلسطيني: من مبدأ إلى خطة عمل

كان الشهيد الغماري يرى فلسطين امتدادًا ليمن الحرية.. إسناد غزة لم يكن دوراً عاطفيًا بل نفذ في إطاره عمليات دقيقة: تحكّم في ممر باب المندب، حاصر موانئ عدّة للعدو الصهيوني، وحوّل الردّ إلى فعلٍ متبادلٍ من إرباك العدو إلى تعطيل سيطرته في نقاط حيوية.. كل ذلك تمّ بتخطيطٍ محكمٍ جعله رأسَ هذه المعادلة، فأضحى لليمن حضورٌ فعّالٌ قادر على تغيير موازين القوى إنْ اقتضى الحال.

الأداء الاستخباراتي والفكري: فن إدارة الغياب والغياب الاستراتيجي

غموضه في التصريحات، وتحفّظه عن الإفصاح، كانا أدواتٍ لدىه: حين ظنّ العدو أنه أصاب قامةً قيادية، بقيت صنعاء مشروعًا عمليًا، حتى الإعلان الرسمي الذي كشف عن الحقيقة.. هذا التعامل المنضبط جعل العدو في حيرة، فاختلطت عليه موازين الربح والخسارة، وكانت هذه الحيرة جزءًا من استراتيجيات الردع التي أنشأها الشهيد الغماري.

أثره في ساحة العدو: سلبُ الأمن ومنعُ الاطمئنان

الغماري لم يكتفِ بالتخطيط العملياتي؛ بل نجح في صناعة حالةٍ نفسيةٍ إستراتيجية لدى العدو. عبر ضرب نقاط حساسة وبأدوات غير متوقّعة، جعَل من «الأمن» في الكيان موضوعًا قابلًا للنقض والارتعاش.. لم تُسجل إنجازاته فقط في الخسائر المادية للعدو، بل في تعطيل سردية «التحصين الإسرائيلي» وتحويل الشعور بالأمان إلى قلقٍ دائم.

هذا التحوّل النفسي هو ما يسميه المطلعون «سلب الأمن» — نجاح يختزن في ممارساته العسكرية والوطنية.

بناء الثقة بين الجيش والشعب

لم يكن الغماري قائدًا للمؤسسة العسكرية فحسب، بل رمزًا وثيق الصلة بالناس. ثقة الجنود فيه مثلت ثقة المجتمع؛ فحوّل الوعي الشعبي إلى جبهةٍ رديفةٍ أسهمت في حفظ متانة المواجهة.

كان يعلّم أن القوة ليست فقط في السلاح، بل في الالتزام الشعبي والدعم الجماهيري الذي يحوّل كل معركة إلى مشروعٍ وطني متكامل.

الشهادة: نهاية جسد وبداية إرادةٍ لا تموت

حين ارتقى شهيدًا أثناء تأدية واجبه دفاعًا عن غزة، لم تكن شهادة الغماري نهايةَ مسيرةٍ بل تتويجٌ لرحلةٍ كاملةٍ من العطاء والجهاد.. شهادة القائد صَهرَتْ المسيرةَ في روحٍ جماعيةٍ تُجدد العهد وتؤكد أن دماء القادة تُنبت قادةً جدداً.

استشهاده لم يضعف المؤسسة؛ بل رسّخها؛ فقد تحوّل دمه إلى ميثاقٍ يعيد تشكيل قواعد الانخراط والقيادة، ويولّد جيلاً من القادة الذين نُسجت قيادتهم في مدرسته.

خلفٌ صالح واستمرارية المشروع

تتابع قيادة الأركان بعده دليل على أن المشروع أكبر من شخصٍ واحد.. فاستلام اللواء الركن يوسف المداني الراية خلفًا للشهيد يثبت أن البنية القيادية متينة، وأن مسيرة المشروع القرآني المقاوم مستمرة بلا فراغ.

إنّ إرث الغماري هو في القواعد المفاهيمية والتكتيكية التي تركها وراءه: جيشٌ مؤمن، منظمٌ، قادرٌ على الابتكار والتحرك عبر ساحات متعددة.

الرمزية والدروس: ما يتركه قائدٌ في أجيالٍ قادمة
  • القيادة بالمثال: لم يطلب من أحدٍ ما لم يكن قد سبق إليه.

  • المزج بين الإيمان والاحتراف: جعل القرآن منهجًا للمعركة، والمهارة العسكرية وسيلةً لتحقيق الوعد.

  • القدرة على الابتكار: دمج وسائط القتال المختلفة صنع قوةً مرنةً ومفاجِئة.

  • التحوّل من فردية العمل إلى منظومة: ترك مؤسسةً قادرةً على الحركة المستقلة والقيادة المشتركة.

هذه الدروس ليست لميدان اليمن فحسب، بل لقلوب كل حرٍّ في الأمة تعتقد أن الانتصار يتطلب إيمانًا وعملًا معًا.

الغماري من سلب أمن العدو إلى إحياء الأمل

الفريق الركن محمد عبد الكريم الغماري رحل جسدًا لكنه بقي روحًا تقود؛ شواهدُه العمليةُ ومعادلاته التكتيكية باتت إرثًا مؤسسيًا ونقطة ارتكازٍ لكل من يسعى إلى مواجهة الاستكبار.

سلب أمن العدو لم يكن هدفًا انتقاميًا بل وسيلةً لتحرير الإرادة والكرامة. إنّ إرث الغماري: جيشٌ من الرجال المؤمنين، قيادةٌ لا تعرف الفراغ، ومشروعٌ يزداد إصرارًا بعد كل استشهاد.

سلامٌ على من عاش قائدًا ومات شهيدًا، وسلامٌ على المسيرة التي لن تنطفئ لأنّ دماء القادة أصبحت وقودها وميثاقها.

*نقلاً عن موقع 21  سبتمبر

التعليقات مغلقة.