اليمن من جبهة إسناد إلى محور تأثير: كيف أعادت صنعاء تعريف معنى الانتصار في غزة!

صنعاء سيتي | تقرير | يحيى الشامي

 

 

بين القول والفعل مسافة اختبار قَلَّ من يتجاوزها بنجاح، أما اليمنيون فعبروها بتفوّق وبامتياز تاريخي لامس حدود الإبداع، بفعلٍ إسنادي مرفوع بالصدق في محل انتصار بالنيابة عن كل العرب وغالبية المسلمين. قبل “الطوفان” كيف كان للناس أن يعرفوا الغث من السمين، والصادق من العميل، ومن مع العدو ومن مع فلسطين (تلك الأرض التي قدرها أن يرتبط مصيرها بمصير أمة بأجمعها، مهما حاولت أن تتنصل أو تتهرب لا مناص من تبعات تأتي فرادى أو جملة)، هذا ما علّمنا الطوفان، وأثبته الإسناد وأثخن في تكريسه في ذاكرة أمتنا الخذلان، حتى بدا أن الأمة تسير في وادٍ ويسير اليمن وغزة في وادٍ آخر، في طريق ما أقل سالكوه وأكثر لائموه ومخالفوه

في تاريخ الصراعات، غالباً ما يُفصل بين التضامن القولي والدعم الفعلي، حتى كاد الأول أن يُمثل ذروة ما يتمخض عنه التضامن الدولي والحراك الدبلوماسي كنتاج يعبّر عن غاية التفاعل الإنساني، لكن اليمن -وبكل اقتدار- كتب فصلاً جديداً ومختلفاً في قواميس العلاقات والمبادئ، حينما قرر القفز من مربع الإدانة إلى دائرة الفعل المؤثر والمكلِّف، ليصبح “الإسناد اليمني” عنصراً حاسماً، ليس فقط في تعزيز صمود غزة، بل في فرض إيقاع مختلف للمعركة، وصولاً إلى إعلان الانتصار التاريخي لغزة ولأهلها في سياق مشهدية النصر العظيم على طريق “الفتح الموعود و الجهاد المقدس” كما يُسمي اليمنيون معركتهم، وهو عنوان يتجاوز الإسناد إلى تبني المواجهة رأساً مع عدو الأمة وخصمها التاريخي.

الجغرافيا لفرض السيادة والإسناد

كانت النقطة الفاصلة في الإسناد اليمني هي تحويل التضامن إلى قرار سيادي يستغل الموقع الجغرافي الاستراتيجي، فقد تحوّل البحر الأحمر إلى أداة ضغط بيد اليمنيين، وضعوها في رسم إسناد غزة وفي جعبة مفاوضها السياسي، وهي  ورقة فرضت قواعد اشتباك جديدة على القوى الكبرى، يشرح الخبراء اليمنيون هذه النقلة النوعية، مؤكدين على مبدأ السيادة:

“اليمن دولة محورية في منطقة البحر الأحمر، وهو من يتحكم بالبوابة الجنوبية، ومن حق اليمن أن يفرض نفوذه وهيمنته على مجاله البحري، وأن يتمكن من الاستفادة من جغرافيته، وتوظيف واقعه الجغرافي بما يحقق مصالحه، وأكثر من ذلك بما يجعله خط دفاع أول عن الأمن القومي العربي وليس لحماية اليمن وحسب”.

بهذا الوعي الاستراتيجي، انتقل الموقف من كونه دعماً معنوياً إلى أمر واقع يمني يُفرض على حركة الملاحة الصهيونية، ما أدخل الإسناد -منذ بداياته الأولى- في مرحلة لم يكن الكيان وداعموه مستعدين لها.

حصار بحري يشلّ العصب الاقتصادي للعدو

تجاوز الإسناد اليمني -في أهدافه- شكليات الحضور العسكري إلى البحث عن مفاعيل قادرة على صنع الـتاثير البالغ، وإحداث ضرر فعلي بالعدو مباشرةً كما فعلت الصواريخ والمسيّرات، أو إحداث ضرر استراتيجي في شرايينه الاقتصادية بشكل يؤثر في قدرة العدو على مواصلة عدوانه دون كلفة باهظة. من هنا كان قرار اليمن بإغلاق ميناء أم الرشراش عبر منع الملاحة الصهيونية كلياً من الممرات التي تقع تحت سيادة القوات المسلّحة اليمنية وسيطرتها، وبالفعل فقد نجحت العمليات البحرية اليمنية -بأنواعها، وباستخدام وسائل وأدوات عسكرية مختلفة- في فرض حصار بحري واقعي على الكيان الصهيوني، بدءاً من استهداف سفنه رأساً، ومن ثم استهداف السفن المرتبطة به والمتجهة إلى موانئه، وفق مراحل تصعيدية آتت أُكُلَها مباشرة، كما وثقها المحللون:

“ميناء “إيلات” (أم الرشراش) هو متوقف بشكل كامل، وتقل نسبة العمليات العسكرية اليمنية بانخفاض وحتى انعدام حركة السفن المستهدفة أو المعادية، وعندما يتوقف عن حركته بالتأكيد لن يكون هناك عمليات عسكرية”.

نجاح اليمنيين -في الأشهر الأولى من الإسناد- في إيصال ميناء حيوي وشريان أساسي إلى حد الإقفال –و الذي لا يزال مقفلاً حتى اليوم- يعني أن اليمن قد وجه ضربة مباشرة إلى شريان اقتصادي مهم، ما اضطر الشركات العالمية إلى تغيير مسارها حول رأس الرجاء الصالح، وأدى إلى عزوف شركات ملاحية كبرى عن التعامل مع كيان العدو أو عبور طريق أطول وأكثر كلفة ومخاطر، وهو الأمر الذي عمّق الأزمة الداخلية للكيان، وجعل ثمن استمرار العدوان على غزة باهظاً مع مرور الوقت.

تشتيت الجهد الغربي:

اضطرت قوى التحالف الغربي الذي سُمي بـ”تحالف الازدهار” لتوجيه جزء كبير من إمكاناتها العسكرية المتقدمة إلى البحر الأحمر، في سبيل الدفاع عن “الملاحة الصهيونية”، لتصبح في حالة دفاعية عن السفن الاسرائيلية بدلاً من دعم العدوان بشكل كامل على غزة. هذا التشتيت في الجهد خفف الضغط جزئياً عن جبهة غزة، وأكد -بالمنظور الاستراتيجي- استحالة فصل الجبهات عن بعضها، أو الانفراد بالساحات بمعزل عن بعضها المساندة ضمن حلقات المحور، وانتقل باليمن ليُصبح محور تأثير يمتلك أوراق ضغط قوية يستحيل تجاوزها أو الحد من تأثيراتها.

ولأن المعركة لم تكن سهلة، ومثّلت اختباراً حقيقياً للقدرات المحلية في مواجهة القوى الكبرى التي تمتلك التفوق التقني، فقد دفع هذا باليمن -تحت ضغط التحدّيات الميدانية- إلى تطوير غير مسبوق في الصناعات العسكرية، والقدرات الدفاعية والهجومية، من واقع تغذية ميدانية راجعة تعزز الخبرة، وترفد القدرة وتصقلهما في آن.

يقول الخبراء في معرض حديثهم عن تنامي القوة اليمنية:

“المعركة تفرض على الجانب اليمني المزيد من الجهد العسكري، وأيضاً المزيد من العملية التطويرية بالنسبة للقوة والأسلحة، وبالتأكيد فإن الجانب اليمني استفاد كثيراً خلال الفترة الماضية على مستوى تطوير هذه القوة العسكرية حتى تكون لها فاعلية”.

كما أن تجاوز الصواريخ اليمنية والطائرات المسيّرة لمنظومات الاعتراض والتعقب يعكس -حتماً وحتى وفق شهادات الصهاينة والأمريكيين أنفسهم- مدى الاستجابة السريع الذي اتسم به العقل اليمني في التعامل مع التعقيدات التقنية التي يتعامل معها تباعاً في سياق المعركة، والتي تعبر عن تضاعف الخبرة التقنية، وقدرة على تجاوز المنظومات الدفاعية المتقدمة، فضلاً عن الكشف عن تطوير صواريخ فرط صوتية (Hypersonic)، وهو تحول تكنولوجي ضخم، أربك حسابات العدو، وقلب موازين الردع في المنطقة.

التأثير المعنوي وتثبيت معادلة الانتصار

أكثر من كونها جزءاً من عمليات إسناد عسكرية واقتصادية صرفة فقد مثّلت جبهة الإسناد اليمنية -بالنظر إلى صمودها وثباتها الاستثنائي أمام التحالفات والعمليات العسكرية المتنوّعة من عهد بايدن الى فترة ترمب–  الشريانَ المعنوي الذي ضخ روح الصمود في غزة وفي أرجاء العالم الإسلامي الذي كاد يقف مبهوتاً أمام التغولات الصهيونية المتصاعدة في مختلف البلدان، لكن اليمن بحالته الفريدة تمكّن من الحد من البلطجة الصهيونية، وقدم درساً مغايراً لكل أحرار العالم عما يُمكن فعله لمجرّد كسر حاجز الخوف والإقرار بالخطر، واتخاذ القرار بالمواجهة عملياً، والتصدّي للمشروع الصهيو-أمريكي رغم الظروف الصعبة، حيث حول الشعب اليمني معاناته الداخلية إلى دافع لنصرة المظلوم، على أن حالة الإسناد الشعبي والجماهيري التي جسدها الملايين أسبوعياً في مختلف المحافظات اليمنية مثلت السند الحقيقي، والأرضية الصلبة التي يقف عليها الفعل العسكري اليمني، ضمن موقف متكاملٍ بين الشعبي والرسمي، والمدني والعسكري، يشمل الحضور الجماهيري، ويتضمن الحضور السياسي، ويترجم بالفعل العسكري على أكثر من صعيد ومجال، في لحظة تاريخية فارقة تودّع فيها قضية الأمة المركزية شكليات التضامن اللفظي إلى فعليات الإسناد العسكري والسياسي الفاعل والمؤثر، المتوائم مع تطلعات الجماهير العربية، والمعبر عن جوهر إرادتها الدينية والقومية.

 

 

*نقلاً عن موقع أنصار الله 

التعليقات مغلقة.