المظلة الأميركية لم تعد مطمئنة: السعودية تنوّع شراكاتها الأمنية
صنعاء سيتي | صحافة
لا تزال تداعيات الضربة الإسرائيلية للدوحة تتفاعل سياسياً وأمنياً في الخليج، إذ باتت دول المنطقة، وفي مقدمتها السعودية، أكثر اقتناعاً بأن الولايات المتحدة قد لا تكون الضامن المطلق لأمنها كما جرت العادة. وتمر الشراكة الخليجية عموماً، والسعودية خصوصاً، مع الولايات المتحدة، في مرحلة اختبار قاسية تفرض على الجانب السعودي البحث عن شراكات أمنية بديلة ترتكز عليها في تدعيم أمنها الوطني وحضورها الإقليمي.
ويُسجَّل للمملكة نجاحها في تنويع شراكاتها الاقتصادية، فهي توجّهت شرقاً، ولا سيما نحو الصين وروسيا، حيث باتت هذه الشراكات رافعة أساسية تعزّز مصادر القوة في الاقتصاد السعودي. غير أن هذه التوجّهات لا تحظى بارتياح في واشنطن، إذ يسعى المسؤولون الأميركيون باستمرار إلى الحد من تطوّرها أو عرقلتها. لكن تلك المساعي لا تجد صدى في الرياض، بعدما أصبحت بعض هذه الشراكات ذات طابع وجودي بالنسبة إلى الاقتصاد السعودي، خصوصاً أن الصين تستحوذ على الحصة الأكبر من صادرات النفط السعودي، وتشكل سوقاً لا يمكن الاستغناء عنها.
تكمن الإشكالية الكبرى لدى السعودية في اعتمادها التاريخي على المظلّة الأمنية الأميركية، التي أثبتت فاعليتها لعقود طويلة، ولا سيما خلال الحقبة السوفياتية، حين اصطفّت الرياض بالكامل إلى جانب واشنطن ولعبت أدواراً محورية في صراعها المميت مع موسكو. واستمر هذا الغطاء الأميركي حتى ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ليواجه خصوماً إقليميين مثل صدام حسين إثر غزوه للكويت. غير أن ما كان في الماضي خياراً ناجحاً، يطرح اليوم إشكالية معقدة، إذ لم تعد تلك المظلّة باليقين أو الثبات نفسهما، ما يضع الرياض أمام أسئلة إستراتيجية غير مسبوقة حول بدائل الحماية وأفق شراكاتها الأمنية.
في العقد الأخير، وبخاصة خلال حربها على اليمن، وجدت المملكة نفسها أمام تحدٍّ غير مسبوق، إذ تبيّن أن حساباتها بالقضاء السريع على حركة «أنصار الله» كانت خطأ. وخلال سنوات الصراع الثماني التي سبقت توقيع الهدنة الممدّدة التي لا تزال سارية المفعول، بدأت الثقة السعودية بالجانب الأميركي تتآكل تدريجياً، إذ تتهم الرياض واشنطن بالتفرّج على منشآتها الحيوية وهي تتعرّض للهجوم، من دون الاستجابة لدعواتها للتدخّل العسكري المباشر أو حماية الأجواء السعودية، الأمر الذي أدى إلى خسارتها الحرب نسبياً وإطالة أمدها، وأظهر حدود الاعتماد المطلق على المظلّة الأميركية في مواجهة تهديدات إقليمية معقدة.
وهكذا، وضعت الضربة الإسرائيلية للدوحة ملف الأمن الإقليمي والخليجي على الطاولة مجدداً، لتكرّس تقديراً متنامياً يرى في إسرائيل وحشاً قد يفترس الأصدقاء قبل الخصوم. ومع ذلك، لا يملك الجانب السعودي ترف الذهاب إلى قرارات قصوى، مثل الاستدارة شرقاً والبحث عن مظلة أمنية بديلة على غرار تنويع الشراكات الاقتصادية.
مد الرياض حبل النجاة لإسرائيل في البحر الأحمر وسيلة مغرية لاتقاء شرّها
فالعلاقة مع واشنطن تبقى عضوية يصعب الانفكاك منها، رغم الفشل الأميركي المتكرّر في حماية دول الخليج، وعلى رأسها المملكة، خصوصاً خلال العقد الأخير، ولا سيما في سياق حرب اليمن. وأقصى ما يمكن في ظل الهامش المتاح لدى المسؤولين في الرياض، الاقتصار على مناورة استحضار أطراف مكمّلة، كما حصل مع الجانب الباكستاني ودعوته إلى الرياض لتوقيع شراكة أمنية وإستراتيجية، تُقرأ كمحاولة لتعزيز شبكة الأمان من دون التفريط بالارتباط الأميركي.
ولئن اعتُبر الاتفاق السعودي -الباكستاني موجّهاً بالدرجة الأولى نحو إسرائيل، إلا أن الرياض لا تزال تلعب لعبتها المزدوجة؛ فمن جهة تعمل على تعزيز طوقها الأمني مع باكستان، ومن جهة أخرى تمد حبل النجاة للكيان الإسرائيلي في البحر الأحمر كوسيلة موازية ومغرية له لاتقاء شرّه. فقبل يوم واحد من توقيع الاتفاق مع باكستان، أقدمت المملكة، مع بريطانيا، على خطوة صُنّفت إستراتيجية، بإطلاق شراكة دولية لدعم الأمن البحري في اليمن، وذلك خلال مؤتمر رفيع المستوى عُقد في الرياض بمشاركة أكثر من 35 دولة ومنظمة دولية، بدعوى مكافحة التهريب والقرصنة والاتجار بالبشر.
ولاقى الاتفاق المذكور استهجاناً من قبل اليمن واعتُبر موجّهاً ضد نشاطه البحري ضد العدو الإسرائيلي، وهذا ما أكده زعيم «أنصار الله»، عبد الملك الحوثي، في خطابه الأسبوعي، إذ أوضح أن «الملاحة المستهدفة حصرياً في البحر الأحمر هي التابعة للكيان الإسرائيلي»، مشيراً إلى أن «موقف اليمن البحري هو لنصرة الشعب الفلسطيني وضد عدو يستهدف الأمة كلّها»، وهاجم «كل من يعملون على إيقاف عملياتنا لحماية الملاحة الإسرائيلية»، موجّهاً نصيحة إلى النظام السعودي وغيره قائلاً: «لا تورّطوا أنفسكم في دعم العدو الإسرائيلي عسكرياً لحماية سفنه في البحار، فهذا عار عليكم».
في موازة ذلك، تتعرّض إدارة البيت الأبيض إلى تحريض من قبل اللوبيات الصهيونية ومراكز أبحاث ودراسات للبحث عن سياسة أكثر شمولاً في اليمن ورفع توصيات، كما فعل «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، الذي يدفع الإدارة إلى العمل مع الشركاء اليمنيين والخليجيين لإعادة تهديد عسكري موثوق إلى الطاولة، يتمثّل في الحد الأدنى، وفق توصية المعهد، بدعم القوات الموالية للحكومة بما يكفي للاحتفاظ بخطوطها الأمامية الحالية وشنّ هجمات مضادة.
وتشمل التوصيات استمرار الدعم الجوي من التحالف الذي تقوده السعودية، خصوصاً في مأرب وعلى طول الساحل الغربي للبحر الأحمر، وتوفير ضمانات أمنية واضحة للسعودية والإمارات، مثل مبيعات أسلحة إضافية، وزيادة التدريب والمناورات، والالتزام بالدفاع عنهما إذا تعرضتا لهجمات من الحوثيين، إضافة إلى تقديم دعم موحّد لإصلاح الحكومة اليمنية.
وبالعودة إلى المظلّة الأميركية للرياض، فقد شكّلت ضربة «أرامكو» في بقيق وهجرة خريص، خريف 2019، محطة مفصلية في الحسابات السعودية المتعلّقة بالأمن الإقليمي. فالهجوم لم يقتصر على إحداث أضرار جسيمة في البنية التحتية النفطية وتعطيل نصف إنتاج المملكة مؤقتاً، بل حمل معه صدمة سياسية أشد وقعاً في ظل غياب رد أميركي حاسم، رغم خطورة الاستهداف وأثره العالمي.
ومذاك، وضعت هذه المواقف القيادة السعودية أمام معادلة جديدة: المظلّة الأمنية الأميركية لم تعد مضمونة كما كانت، والارتهان الكامل لواشنطن لم يعد خياراً آمناً. عندها بدأت الرياض مسار إعادة تموضع إستراتيجي، اختارت فيه خفض التصعيد مع طهران بدل الاستمرار في سياسة المواجهة المفتوحة، ففتحت قنوات حوار بوساطات عراقية وعُمانية، قبل أن تصل إلى اتفاق بكين في آذار 2023، الذي أعاد العلاقات الديبلوماسية مع إيران وأطلق مسار تهدئة إقليمي أوسع.
*لقمان عبدالله: الاخبارية اللبنانية
التعليقات مغلقة.