صنعاء سيتي |  تقرير | صادق البهكلي

 

حين خلق الله الإنسان وجعله خليفة في الأرض، حمّله أعظم أمانة وأجلّ رسالة: رسالة العبودية لله، وعمارة الأرض بالحق والعدل. وقد جاء في القرآن الكريم ما يكشف لنا تلك اللحظة العظيمة التي أعلن الله فيها للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة}، فكان سؤال الملائكة: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟}. سؤالٌ حمل في طياته استشعارًا مبكرًا لما قد ينحدر إليه الإنسان إذا أعرض عن هدي خالقه، لكن الله أجابهم بما يفتح أفقًا آخر: {إني أعلم ما لا تعلمون}. لقد أراد الله لهذا المخلوق المكرم أن يكون أداة للخير، وبانيًا للحضارة، وحاملًا لراية العدل والحق، لا وسيلة للفساد وسفك الدماء.

ولأجل ذلك لم يترك الله الإنسان يتيه في دروب الحياة دون هداية، بل أرسل إليه الأنبياء والرسل، يتلون عليه آيات الله، ويزكونه، ويعلّمونه الكتاب والحكمة، ليبقى على الصراط المستقيم. فجاءت الرسالات السماوية لتذكّر الإنسان بغاية وجوده، وتعيده إلى مهمته الكبرى: أن يكون خليفة لله في الأرض، يحقق بوجوده معنى العبودية لله، ومعنى العدل بين الناس. لكن التاريخ يكشف أن البشرية كلما انحرفت عن هذه الرسالة، واستكبرت على أنبيائها، غرقت في الفساد والدمار، وتحوّل الإنسان – الذي خُلق ليعمر الأرض – إلى أداة قتل وخراب، وسُفكت بسببه أنهار من الدماء.
وهنا تكمن أهمية هذا التقرير، الذي يستعرض مسيرة الإنسان بين هداية السماء وانحرافه عنها، ويبرهن -من خلال شواهد التاريخ والواقع- أن الانحراف عن تعاليم الله هو أصل كل المآسي التي عاشتها البشرية، من وحشية ومظالم الجاهليات الأولى وتلك الأمم التي تحدث القرآن عنها، كقصة فرعون وطغيانه، إلى جاهلية ما قبل المبعث النبوي المبارك، إلى الحروب والمآسي والكوارث التي تعرضت لها أمة الإسلام نتيجة انحرافها عن رسالة الله التي كرمها الله بها من الحروب الصليبية إلى التتار، ومن الاستعمار إلى الحروب العالمية، وصولًا إلى جرائم العصر في فلسطين وغزة، حيث تجلّت أبشع صور الجاهلية المعاصرة.

الإنسان خليفة الله، واستخلافه بين الهداية والضلال

الإنسان هو الكائن الوحيد الذي خُلق مكرّمًا، محاطًا بعناية الله ورعايته، وسُخّر له الكون بما فيه من موارد وأسرار، لينهض بمهمة سامية: عمارة الأرض، والشهادة على كمال الخالق. ومنذ اللحظة الأولى لاستخلافه في الأرض، لم يكن هذا الدور مجرد امتياز، بل تكليف ثقيل، مشروط بالهداية التي أوصلها الله عبر رسله وأنبيائه.
أراد الله لهذا الإنسان أن يسلك سبيل الرشاد، فيحيا حياة متوازنة، قوامها العدل، وقيمها الرحمة، حتى يعكس -في سلوكه ومعاملاته- صورة عن الحق الإلهي. لكن الإنسان حين ينحرف عن هذا المسار، يتحول إلى أداة فساد، ينشر الظلم، ويستبيح الدماء، ويحوّل الأرض إلى ساحة خراب. من هنا، جاءت بعثة الأنبياء كرحمة متجددة، تعيد للإنسان بوصلته، وتذكّره بوظيفته الكبرى. وقد تُوِّجت هذه المسيرة برسالة خاتم الأنبياء محمد (صلوات الله عليه وعلى آله)، الذي بعث في لحظة بلغت فيها الجاهلية الأولى ذروتها، حيث قسوة القلوب، ووأد البنات، وتحكم القوى المهيمنة بالضعفاء، وغياب القيم الإنسانية. واليوم -وبعد أكثر من أربعة عشر قرنًا- يقف الإنسان مجددًا أمام التحدي ذاته: فبدلاً من أن يكون خليفة الله العادل في الأرض انزلق في جاهلية جديدة، أشد فتكًا وخداعًا، تختفي خلف الشعارات البراقة، لكنها تمارس ذات الاستبداد. وهكذا يصبح سؤال الاستخلاف حاضرًا في الماضي والحاضر: كيف يؤدي الإنسان أمانته في ظل إغراءات القوة ومظاهر الحضارة الزائفة؟

الجاهلية الأولى وظلمها للإنسان

عاشت البشرية، وبالأخص الجزيرة العربية قبل بعثة النبي (صلوات الله عليه وعلى آله)، في جاهلية موغلة بالظلام، لم تكن تقتصر على عبادة الأصنام، بل تجاوزت ذلك إلى اختلال القيم الإنسانية نفسها، فقد سادت القبلية التي تجعل الانتماء الدموي معيارًا للكرامة، وساد التفاخر بالأنساب على حساب الأخلاق، وتحولت النساء إلى سلعة، حتى وصل الأمر إلى وأد البنات خشية العار أو الفقر. وكان القوي يأكل الضعيف، والدماء تسفك لأتفه الأسباب، والحروب قد تندلع لعقود طويلة بسبب ناقة أو كلمة، وكانت مكة نفسها -بما تحمله من رمزية دينية- مسرحًا للطغيان الاقتصادي والسياسي، حيث احتكر زعماء قريش السلطة والمال، واستغلوا قدسية الكعبة لمراكمة النفوذ، بينما بقي الفقراء والعبيد مسحوقين تحت وطأة الظلم، لم تكن الجاهلية مجرد مرحلة تاريخية، بل كانت نظامًا فكريًا واجتماعيًا قائمًا على تغييب العدل وغياب الرحمة. وفي وسط هذا الظلام، كان العالم كله يعيش أوضاعًا مشابهة: الفرس والروم كقوتين عظميين تنافستا على الهيمنة، ولم يكن شعوبهما أفضل حالًا، إذ استُعبدوا باسم الدين أو السلطة، وتحول الإنسان إلى سلعة للتسلية، فتقام مهرجانات المبارزة وتنتهي بأحد المتبارزين قتيلا تحت ضحكات وتصفيق الملوك وحاشيتهم، من هنا جاء الإسلام ليقول للإنسان: “كفى ظلمًا، كفى عبودية لغير الله”، ليعيد صياغة المجتمع على أساس إنساني وروحي جديد، قائم على العدل والمساواة والإخاء، وعلى أساس الهدى الذي تستقيم به الحياة، وتصان الأعراض والكرامات. وهو الأساس نفسه الذي سبق وبعث الله من أجله أنبياء سابقين، وهذا الانقلاب الجذري الذي قاده الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) لم يكن حدثًا محليًا، بل صار تحولًا عالميًا أعاد تعريف معنى الحضارة، وأخرج الإنسانية من ظلمات الجاهلية الأولى إلى نور دين الله الذي كرم الله به الإنسان.

بعثة الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) كمنقذ وكاسر لواقع الجاهلية

حين بعث الله رسوله محمدًا (صلوات الله عليه وعلى آله)، لم يبعثه ليكون مجرد واعظ أو زاهد، بل قائداً وقدوه ومعلماً ومصلحاً شاملاً، يؤدي وظيفته كما قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ }آل عمران164. جمع بين الروحانية والسياسة والاجتماع، ليبني مشروعًا حضاريًا جديدًا، بدأ بدعوة التوحيد التي كانت في جوهرها ثورة على الطغيان، إذ إنها أسقطت قدسية الأصنام المادية والمعنوية، ونزعت الشرعية عن كل نظام يستعبد الإنسان، فالتوحيد لم يكن شعارًا دينيًا فقط، بل كان إعلان تحرر شامل من سلطة البشر والطغاة، ومنذ اللحظة الأولى، واجه النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) مقاومة عنيفة من القوى المستفيدة من الجاهلية: قريش التي رأت في دعوته تهديدًا لمصالحها، اليهود الذين خشوا على نفوذهم، والمنافقون الذين سعوا لتفكيك الصف الداخلي. ورغم شدة الأذى، صبر الرسول وصحبه، حتى أذن الله له بالجهاد، ليؤسس أول دولة عادلة في المدينة. وهناك تحققت نقلة نوعية: من مجتمع ممزق قبليًا، إلى أمة موحدة تحمل رسالة عالمية. خاض النبي (صلوات الله عليه وعلى آله) غزوات بدر وأحد والخندق، ليس ليكرس منطق الدم، بل ليواجه الطغيان ويؤسس لحق الإنسان في العيش بحرية وكرامة. وما يميز هذه التجربة أنها لم تعتمد على القوى العظمى القائمة آنذاك، بل صنعت ذاتها بذاتها، فرفض الرسول الاستعانة بالفرس أو الروم، مربيًا الأمة على الاستقلال والثقة بالله، بهذا النهج، تحولت الرسالة من مشروع دعوي محاصر، إلى حركة حضارية أسقطت الجاهلية الأولى، وفتحت الباب لعصر جديد يقوم على قيم السماء. واليوم، ونحن نرى غزة تُحاصر وتُقتل بلا نصير، يصبح استحضار تجربة الرسول درسًا بليغًا: أن الخلاص لا يأتي من الاستعانة بالقوى العظمى، بل من التوكل على الله والاعتماد عليه بالإيمان والصمود وبناء الذات.

نتائج الانحراف عن هدي الله عبر التاريخ

حين نراجع مسار التاريخ بعد بعثة الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله)، نكتشف أن انحراف الأمم عن تعاليم الله وتمردها على هدي أنبيائه لم يكن مجرد انحراف فكري أو أخلاقي، بل كان سببًا مباشرًا لظهور أبشع صور الظلم وسفك الدماء. فالحروب الصليبية التي شُنّت باسم الدين لم تكن إلا غطاءً لأطماع سياسية واقتصادية، خلّفت وراءها أنهارًا من الدماء في المشرق الإسلامي. وحين اجتاح التتار الشرق، ارتكبوا مجازر رهيبة أبادت مدنًا كاملة، في مشهد يعكس كيف يتحول الإنسان إلى وحش كاسر حين يفقد بوصلة الهداية.
ومع تطور الحضارات الأوروبية، لم يختفِ هذا النهج، بل اتخذ أشكالًا جديدة: الاستعمار الذي اجتاح أفريقيا وآسيا، فاستعبد ملايين البشر، خاصة الأفارقة الذين حُوّلوا إلى عبيد يُباعون ويُشترون، وامتهنت إنسانيتهم لقرون. ومع القرن العشرين، وصلت الجاهلية الحديثة إلى ذروتها عبر الحربين العالميتين اللتين أودتا بحياة عشرات الملايين، وأطلقت يد القوى الكبرى لاقتسام العالم. وما حدث في هيروشيما ونجازاكي من إبادة نووية يُجسد كيف سخّر الإنسان عقله الذي منحه الله ليكون أداة قتل جماعي بدلًا من أن يكون وسيلة إعمار.
ولا ننسى حرب فيتنام التي حوّلت بلداً كاملاً إلى ساحة تجارب للأسلحة المحرمة، ومجازر الاستعمار الفرنسي في الجزائر، والجرائم البريطانية في الهند واليمن، والإيطالية في ليبيا، والألمانية في أوروبا الشرقية، وكلها حلقات في سلسلة انحراف طويل. ومع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، تكررت المآسي: غزو أفغانستان والعراق، تدمير الصومال، إشعال الحروب في اليمن، واستمرار مأساة الشعب الفلسطيني الذي تعرّض منذ أكثر من سبعين عامًا للقتل والتهجير على يد العصابات الصهيونية بدعم غربي لا محدود، كل هذه الأحداث تكشف أن الجاهلية حين تتجدد، تُنتج حضارات مشوهة، تتزين بالتقدم العلمي، لكنها تسخّره في القتل والسيطرة ونهب الخيرات. وهكذا يصبح التاريخ كله شاهدًا على أن الانحراف عن هدي الله يقود بالضرورة إلى حضارة قاتلة، لا تعرف للرحمة ولا للعدل طريقًا.

غزة النموذج الأوضح لتجلي الجاهلية المعاصرة

ما يجري اليوم في غزة يكشف الوجه الحقيقي للجاهلية المعاصرة بأبشع صورة. أطفال يقتلون تحت الركام، أمهات يودعن أبناءهن بلا قبور لائقة، مدن تُمحى من الخريطة بالصواريخ، بينما تُبرَّر الجريمة على أنها “دفاع عن النفس”.
في غزة رأينا الحضارة الغربية التي تتشدق بحقوق الإنسان وهي تمد القاتل بالسلاح والغطاء السياسي. رأينا المؤسسات الدولية التي أسست بعد الحرب العالمية الثانية بزعم منع الإبادة الجماعية، وهي عاجزة أو متواطئة أمام إبادة تُبث مباشرة على الهواء. بل إن الأمر تجاوز حدود التواطؤ إلى الشراكة الكاملة، إذ توفر الولايات المتحدة وأوروبا الدعم العسكري والسياسي والإعلامي لآلة القتل، في تكرار فجّ لما هو أبشع مما حدث في العصور الغابرة وفي الجاهليات القديمة.
إن غزة اليوم ليست مجرد قضية محلية، بل هي اختبار كوني يكشف جوهر هذه الحضارة: من يقف مع الحق، ومن ينحاز للباطل، وإذا كانت مكة قبل البعثة تئد البنات خوفًا من العار، فإن الجاهلية الحديثة تقتل الأطفال بالجملة تحت مسمى “الحرب على الإرهاب”، وإذا كانت قبائل الجاهلية قد تغلبت على صوت العقل في سبيل العصبية، فإن القوى الكبرى اليوم تغلب مصالحها على دماء الأبرياء، غير آبهة بملايين الصور والفيديوهات التي تفضح جرائمها. غزة تكشف أن البشرية لم تتجاوز الجاهلية الأولى، بل عادت إليها بأدوات أشد فتكًا وتوحشًا.

التخاذل العربي والإسلامي امتحان القيم

لكن الصورة لا تكتمل إذا اكتفينا بفضح الغرب والاحتلال؛ فالتخاذل العربي والإسلامي شكل صفحة أكثر إيلامًا.  فهذا التخاذل ليس عاديا، لأنهم هم المسؤولون عن إبلاغ رسالة الله بما فيها من قيم وخير وعدل لتعم البشرية كلها، فتلك الرسالة وذلك الرسول الذي كرمهم الله بأن جعله منهم، وشرف لغتهم بأن أنزل أعظم كتبه السماوية بها، هي رسالة للعالمين جميعا، فهم مسؤولون عن كل جريمة تحدث في هذا العالم، لأنهم هم من كان يُراد منهم أن يتحملوا مسؤوليتهم التي هي شرف عظيم لهم، كما قال الله في القرآن الكريم: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} شرف عظيم لك و لقومك {وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزخرف:44) سوف تُسألون عن هذا الشرف الذي قلدناكم إياه ثم أضعتموه. عندما أضاع العرب مسؤوليتهم تمكن اليهود قتلة الأنبياء من نشر فسادهم في هذه الأرض، فهم الذين أوصلوا أنفسهم إلى هذه الحالة، إلى هذه الذلة، إلى هذا الخزي، لأنهم ضيعوا أشياء كثيرة، ضيعوا فرصاً عظيمة.
فالعالم العربي الذي يفاخر بانتمائه لرسول الرحمة، يقف اليوم صامتًا أمام ذبح إخوانه في غزة، وبعض أنظمته تجاوزت الصمت إلى المشاركة الفعلية في الحصار والتطبيع والتواطؤ. هنا تتجلى الجاهلية في أبشع صورها: حين يتخلى القريب عن قريبه، ويتحوّل الأخ إلى عون للغريب، هذا لم يحدث حتى في الجاهلية الأولى، فكان ما تزال لديهم حمية وغيرة. إن هذا التخاذل ليس مجرد ضعف سياسي، بل هو انعكاس لانهيار القيم، والانحراف عن هدى الله وعن هدى رسوله، وتغليب للمصالح الضيقة على المبادئ الكبرى التي جاء الإسلام لترسيخها.
وإذا كان العرب في الجاهلية الأولى يعيشون صراعًا قبليًا على موارد محدودة، فإن عرب اليوم يعيشون صراعًا على السلطة والثروة، حتى لو كان الثمن هو بيع قضايا الأمة، ورهن استقلالها، والمصيبة أن هذا الانهيار لا يقتصر على الأنظمة، بل يمتد إلى قطاعات من المجتمعات التي استسلمت لليأس، أو انشغلت بترف الحياة، مكتفية بمتابعة أخبار غزة على الشاشات، وكأنها حدث بعيد لا يعنيها.
وهكذا نجد أنفسنا أمام امتحان حقيقي: هل بقي في الأمة من يحمل همّ الرسالة التي بُعث بها النبي (صلوات الله عليه وعلى آله)، ويواجه الجاهلية الجديدة كما واجهها هو؟ أم أننا عدنا إلى زمن الغاب، حيث الانقسام والخذلان والارتهان للطغاة؟ إن غزة اليوم تكشف ليس فقط وحشية العدو، بل أيضًا عجز الأمة عن أن تنهض بمسؤوليتها التاريخية.

مدى حاجة الأمة لتعزيز ارتباطها بالرسول والقرآن

من خلال استحضار السيرة النبوية والواقع المعاصر، يتضح أن الطريق الوحيد للخلاص من الجاهلية الحديثة هو العودة إلى منهج النبي (صلوات الله عليه وعلى آله)، لا كشعارات احتفالية، بل كمشروع حضاري عملي، فقد علّمنا الرسول أن التغيير يبدأ من بناء الإنسان المؤمن الواعي، ثم الأمة المتماسكة، ثم المشروع القائم على الاستقلال والثقة بالله.
لم ينتصر المسلمون في بدر لأنهم كانوا يملكون السلاح الأحدث، بل لأنهم امتلكوا الإيمان والقيادة الصادقة والرؤية الواضحة، واليوم، حين ننظر إلى غزة، نرى صورة مصغرة لذلك المشهد: شعب محاصر، لكنه ثابت، يواجه أعتى قوة مدعومة من أضخم إمبراطورية في التاريخ، ومع ذلك لم يستسلم، بل حوّل ضعفه إلى قوة معنوية تربك العدو وتفضح تواطؤ العالم. الدرس الأهم أن الاستعانة بالقوى العظمى لن تجلب الحرية، كما لم يجلبها الفرس أو الروم في زمن النبي (صلوات الله عليه وعلى آله)، بل إن الطريق هو في بناء الذات، والتوكل على الله، وتوحيد الصف تحت قيادة صادقة.
المسلمون في هذه المرحلة أحوج ما يكونون في أن يعززوا ارتباطهم وصلتهم الوثيقة بالرسول والقرآن، وهم يواجهون الخطر الكبير في التبعية لأعداء الإسلام. حركة اللوبي اليهودي الصهيوني في العالم، وأذرعه (أمريكا وإسرائيل، وبعض الأنظمة الأوروبية، ومن يواليهم)، هي في اتجاه احتواء المسلمين، واختراقهم، اختراقهم في كل شيء: ثقافياً، وفكرياً، إلى درجة التدخل في مناهجهم الدراسية، كما يحدث في كثيرٍ من البلدان العربية والإسلامية، ومن ضمنها المملكة العربية السعودية، التي فتحت المجال حتى لحذف آياتٍ قرآنية من مناهجها الدراسية، مما يستاء اليهود منها، وتعديل مفاهيم، وتغيير مفاهيم… وغير ذلك. في العالم الإسلامي هذا الخطر يتفاقم، هو ليس بجديد، ولكنه يتفاقم، مع الوقت يكثر التأثير في تغيير كثيرٍ من المفاهيم، والرؤى، والأفكار، والعقائد، والثقافات، وهذه قضية خطيرة جدًّا؛ لأنها تبعد الناس، بحيث يبقى انتماؤهم للإسلام انتماءً شكلياً، لكن بدون أن يحملوا رؤية الإسلام، معتقدات الإسلام، ثقافة الإسلام، رؤية الإسلام في شؤون الحياة. يصبح الشخص ينتمي للإسلام، لكن ثقافته، ومفاهيمه، وأفكاره، وتصوراته، بعيدةً كل البعد عن القرآن الكريم، عمَّا كان عليه رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، فهي حالة خطيرة جدًّا على المسلمين؛ لأنها تفتح المجال لأعدائهم للسيطرة عليهم. إذا سيطر أعداء الأمة عليها ثقافياً وفكرياً، وكسبوا ولاءات أبنائها، فهم يعتبرون مسيطرين عليها سيطرةً تامة، السيطرة على الإنسان في فكره، وثقافته، وولائه، هي أخطر من السيطرة على أرضه وترابه؛ لأنه إذا بقي له أصالة الانتماء، في الفكر، والمعتقد، والثقافة، والمبدأ، والقيم، والأخلاق؛ سيستعيد الأرض، يمكن للأمة أن تستعيد الأوطان، أن تستعيد التراب، لكن إذا فقدت إيمانها، إذا فقدت ثقافتها، إذا فقدت فكرها، إذا فقدت وخسرت قيمها ومبادئها؛ خسرت كل شيء، وتمكن أعداؤها من السيطرة التامة عليها، وهذا ما أصبح من أهم الوسائل التي يعتمد عليها الأعداء في سعيهم للسيطرة على الأمة، فيما يسمى بالحرب الناعمة، التي تتجه إلى السيطرة والاستحواذ من كل الجهات: على المستوى الثقافي، والفكري، والإعلامي، وعلى مستوى العادات والتقاليد، وعلى مستوى الوضع الاقتصادي، وفي كل شيء.

إن ذكرى المولد النبوي الشريف تأتي لتذكّرنا بأن مشروع الرسول لم يكن حدثًا عابرًا، بل مسيرة ممتدة، تتجدد كلما عادت الجاهلية بأثواب جديدة. واليوم، نحن أمام فرصة تاريخية: أن نستعيد قيم الرسالة، ونبني جبهة عالمية للحق، تبدأ من فلسطين، وتمتد لتشمل كل المستضعفين، فكما قال تعالى: “لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله”، فإن المستقبل حتمًا سيكون لهذا المشروع الإلهي إذا صدقت النيات وثبتت الخطى.