أنياب الخبز “الإسرائيلي” تبتلع المزيد من أطفال غزة
صنعاء سيتي | متابعات تقرير
لم يعد العدو الإسرائيلي يدخر أي جهد لإثبات أن “مراكز توزيع المساعدات” التي أنشأها -بالتعاون مع أمريكا- ليست أكثر من مصائد لقتل أهل غزة.
في شوارع غزة الضيقة، أصبح الوقوف في طوابير المساعدات جزءاً من طقوس البقاء. وجوه منهكة، أكتاف نحيلة، وأصوات أمهات تهمس بأسماء أطفالهن خوفاً أن يضيعوا بين الحشود. لكن الرصاصة كثيراً ما تصل قبل كيس الدقيق، والغاز قبل علبة الحليب، لتتحول نقاط التوزيع إلى ساحات فزع جديدة تضاف إلى سجلٍ لا يهدأ من المجازر.
عند أول ضوء، تجمّع مئات من الرجال والنساء حول شاحنة تحمل ما تيسّر من الطحين والمعلّبات. كان الهواء مشبعاً بالغبار والانتظار. “لم آكل منذ يومين”، لسان حال المنتظرين. لم تمضِ دقائق حتى تفرّق الجمع على وقع إطلاق النار، وسقطت عبوات الطحين على التراب، وانسكب الملح كأنما يرش جراحاً جديدة على المدينة.
منظمة أطباء بلاحدود أفادت، السبت، أن نسبة الجرحى بين المدنيين الفلسطينيين ارتفعت بمعدل ثلاثة أضعاف يوميا منذ افتتاح “مراكز المساعدات الإسرائيلية ــ الأمريكية” في غزة.
وقال نائب المنسق الطبي لمنظمة أطباء بلا حدود، محمد أبو مغيصب، إن “القطاع الصحي في غزة يواجه رعبا جديدا بعد ما تحولت نقاط توزيع الاغذية التي تدعمها “إسرائيل” إلى منطقة قتل”.
وأوضح أبو مغيصب أن أعدادا كبيرة من جرحى جرائم الاحتلال الإسرائيلي في مراكز توزيع المساعدات يفقدون حياتهم قبل أن يصلوا إلى المستشفيات نتيجة إصاباتهم الحرجة.
الجوع هنا ليس حدثاً عابراً؛ إنه هندسة يومية للحياة. وجبة واحدة تتقاسمها عائلة كاملة، حليب يُخفَّف بالماء ليكفي أسبوعاً، وخبز يُخبَز على نار من أثاثٍ محطّم بعدما نفد الغاز. يروي شبّانٌ أنّهم يتناوبون الأكل: “اليوم دور الصغار، غداً إن بقي شيء نأكل نحن”. يذوب الوزن عن الأجساد كما تذوب الأعصاب، ويصبح الطعام حديث الساعة الوحيد.
مظاهر الكارثة الإنسانية تتعدد في غزة، بين الموت جوعا والتعرض للقتل بحثا عن الطعام، أو الموت بسبب عدم الحصول على الرعاية الطبية اللازمة، إلى ضحايا القصف الإسرائيلي المباشر، لتتحول غزة إلى أكبر مسرح مفتوح للقتل وسط صمت عربي ودولي مطبق.
وعلى صعيد القتل بالتجويع، قالت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة إن 1965 فلسطينيا تم قتلهم برصاص قوات العدو الإسرائيلي قرب نقاط توزيع المساعدات، بينما أصيب 14701 في نفس تلك الأماكن.
في كل مرة ينتظم الناس في طابور، تتعالى في الخلفية أسئلة البقاء: هل ستصل الشاحنة؟ وهل سنصل إليها أحياء؟ تتكرر أنباء استهداف التجمعات قرب نقاط التوزيع والطرقات المؤدية إليها، فتصير المعونة مخاطرة، ولقمة العيش مقامرة بالحياة. آثار الدم تُرى على طرود ممزقة، وكأن الرسالة: “حتى الجوع ليس لكم حقٌ في مداواته”.
ورغم أن عجلة الموت جوعا تمضي بسرعة في غزة، مخلفة حتى الأحد 258 قتيلا بينهم 110 من الأطفال، حسب وزارة الصحة، إلا أن وتيرة المساعدات لم تشهد أي تحسن، لمواجهة الكارثة.
في أقسام الطوارئ، يكتب الأطباء وصفات يتعذر صرفها. خيط الجراحة ينفد، والمضادات الحيوية تُقسَّم بقطّارة، ومسكنات الألم تُعطى باعتذارٍ أكثر مما تُعطى بجرعات. تقول ممرضة: “نقضي الليل نقنع الأمهات بأن حرارة أطفالهن ستنخفض بالكمادات وحدها… لا نملك غير الماء والصبر”. ومع شحّ الأدوية تتفاقم الإصابات التي كان يمكن علاجها، وتتحوّل الجروح البسيطة إلى تهديدٍ للحياة، وتتحوّل غرف العمليات إلى انتظارٍ طويل يسبق المجهول.
و أوضح المتحدث باسم مستشفى شهداء الأقصى، الدكتور خليل الدقران، أن “انعدام الدواء وانتشار الجوع حول أجساد المرضى والجرحى إلى هياكل عظمية، ما يعقد فرص شفائهم بسبب ضعف المناعة” وأضاف الدقران أن “أجساد الأطفال الصغار لا تحتمل الجوع لأيام متتالية، بسبب ضعف المناعة وقلة المخزون الغذائي في أجسادهم”، مشيرا إلى أن هناك نحو 60 ألف رضيع بحاجة ماسة للحليب والعلاج، محذرا من أن هناك نحو 300 ألف مريض بأمراض مزمنة بعضهم يفقد حياته جراء المجاعة ونفاد الأدوية، نتيجة سياسة الاحتلال القائمة على إدخال المساعدات عبر التقطير. وأوضح الدقران أن الحل يتمثل في إدخال ألف شاحنة مساعدات يوميا إلى غزة.
في حين حذر المتحدث باسم منظمة “يونيسيف” كاظم أبو خلف من تدهور الوضع الإنساني بشكل مخيف في قطاع غزة، مشيرا إلى أن معدل دخول الأطفال في دوائر سوء التغذية بلغ 112 طفلا يوميا.
وبينما ترتفع حصيلة ضحايا حرب التجويع في غزة، تواصل قوات العدو الإسرائيلي جرائم القصف على المدنيين، وأشارت وزارة الصحة إلى أن حصيلة الإبادة الاسرائيلية في غزة ارتفعت إلى 62.004 شهيدا إلى جانب 156.230 إصابة منذ السابع من أكتوبر 2023. فيما سقط 60 شهيدا و344 مصابا بنيران العدو خلال 24 ساعة الماضية، ليرتفع اجمالي عدد الشهداء منذ 18 مارس 2025م إلى 10,460 شهيدًا و 44,189 إصابة.
بينما تفيد مؤشرات المنظمات الدولية العاملة في غزة أن معدلات الموت -نتيجة حرب التجويع الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي- قد تتضاعف خلال الأيام القادمة، نظراً لتوسع المجاعة المتسارع الذي يتم تسجيله بين أهالي القطاع، وأن مسألة رفع الحصار، والسماح بإدخال المساعدات أصبح ضرورة لا تحتمل التأجيل. ورغم أن تحذيرات المنظمة الدولية حول جريمة حرب الإبادة الجماعية في غزة ليست جديدة، إلا أنها تسجل وفاة المجتمع الدولي، قبل أن تسجل وفاة أهل غزة.
الخوف صار وجبة إضافية. الأطفال يحفظون أصوات الطائرات أكثر مما يحفظون أسماءهم، والنساء تنام بثيابهن تحسّباً لهروبٍ مفاجئ. يقيس الناس الزمن بعدد الانفجارات بين فترتي توزيع. أما الحكايات التي كانت تُروى لتسكين بكاء الصغار، فصارت عن معنى الكرامة وكيف يبقى الإنسان إنساناً وهو يمدّ يده للغذاء ويخشى الرصاص.
في غزة اليوم، الجوع ليس نتيجة عجز الطبيعة، بل حصيلة أبوابٍ مؤصدة، ومعابر مغلقة، وقصفٍ يلاحق حتى المنتظرين للغذاء. قتلُ منتظري المساعدات يضيف طبقةً فادحة من القسوة إلى مشهد يزدحم بالفقد. والدواء الشحيح يترك الأجساد رهينة الألم والعدوى.
إن وقف استهداف المدنيين وضمان وصول المساعدات بشكل آمن وكافٍ، وإدخال الدواء والوقود دون إبطاء، ليست مطالب سياسية. إنها استحقاق لا يملك أحد التحكم فيه. ففي المدينة التي يقرع فيها الجوع الأبواب، يصبح الحقّ في لقمةٍ آمنة وجرعةِ دواءٍ متاحة هو التعريف البسيط للإنسانية.
التعليقات مغلقة.