تحوُّل المعادلات الإقليمية: اليمن وفلسطين يعيدان رسم ملامح الردع في وجه الكيان الغاصب

صنعاء سيتي | صحافة

 

 

لا يمكن فهم التحركات الأخيرة للكيان الصهيوني نحو القبول بوقف إطلاق النار في غزة بمعزل عن التحولات الكبرى في ساحة الصراع الإقليمي، وفي مقدمتها التصعيد النوعي الذي تقوده صنعاء من خلال هجمات الطائرات المسيّرة والصواريخ، إضافة إلى فرض حصار بحري فعّال أربك حسابات “تل أبيب” وشركائها.

 

ما تواجهه “إسرائيل” اليوم ليس فقط تصعيدًا عسكريًا تقليديًا، بل إرادة صلبة من طرف يمني يدرك أنه بات لاعبًا حاسمًا في معادلة الردع، ولا يملك ما يخسره بعد أن دفع أثمانًا باهظة في سنوات المواجهة. هذا الواقع يجعل من ردّ اليمن أكثر جسارة، وأقل اكتراثًا بالكلفة، ما يفتح الباب أمام تصعيد مفتوح غير قابل للاحتواء ضمن الأطر الكلاسيكية.

 

الرسائل العملياتية – مثل غرق السفينة اليونانية – لم تكن معزولة أو عشوائية، بل تحمل دلالات إستراتيجية واضحة: أي تعاون مع الكيان الصهيوني ستكون عواقبه تدميرية. وهذا يندرج ضمن سياسة يمنية تتجاوز التضامن مع غزة نحو مشروع تحرري أشمل يشمل الضفة الغربية، خصوصًا في ظل التوجه الصهيوني لضمها رسميًّا.

 

إن تزامن ضغط صنعاء العسكري مع تنامي قدرات محور المقاومة، وعلى رأسه إيران، يعيد تشكيل موازين القوى. فاليوم، أنظمة الدفاع الجوي الصهيونية لم تعد قادرة على التصدي لوتيرة النيران المركبة، ما يعكس اختلالًا هيكليًا في قدرة الكيان على حماية عمقه الإستراتيجي. وهذا بحد ذاته يمثل تحوُّلًا جذريًّا في معادلة الردع التقليدية.

 

مشروع الحرب الذي راهن عليه نتنياهو لكسر إرادة الخصوم انتهى بنتائج معاكسة، حيث بات الكيان محاصرًا بهزائم متعددة الأبعاد: عسكرية، أمنية، اقتصادية، سياسية، وكذلك بموقعيته على الصعيد الدولي. لم تعد “إسرائيل” قادرة على الترويج لنفسها كقوة ردع، بل أُدرجت ضمن خانة الكيانات المارقة والمرتكبة للجرائم الجماعية.

 

أما المحور المقابل، وفي طليعته إيران، فبات يقدم نموذجًا لسياسة خارجية متزنة لكنها صلبة، قادرة على الاشتباك المتعدد الجبهات دون أن تفقد توازنها الداخلي. في المقابل، أظهرت الأحداث أن الكيان الصهيوني، في غياب المساندة الأميركية المباشرة، عاجز حتى عن إدارة معركة ضد غزة، فضلًا عن مواجهة خصوم إقليميين أقوياء.

 

الرؤية الدولية نحو الكيان تغيّرت بعمق. ما عاد العالم، بما في ذلك الغرب، يتعامل مع الرواية الصهيونية كحقيقة مسلّم بها. حتى الخطابات الفارغة التي أطلقها ترامب لصالح نتنياهو لم تعد تجد لها صدى، بعدما بات الرأي العام أكثر وعيًا بجرائم الاحتلال، وفشله الممنهج في تحقيق أي إنجاز إستراتيجي.

 

من ناحية ميدانية، شكّلت عمليات المقاومة الفلسطينية الأخيرة، خصوصًا الكمين المركب في بيت حانون، دليلًا قاطعًا على اهتراء الجبهة العسكرية الصهيونية. جيشٌ اعتاد القصف العشوائي واستهداف المدنيين، وجد نفسه في مواجهة مقاومة منظّمة توقع به عشرات القتلى والجرحى، ثم يلجأ إلى التعتيم الإعلامي خوفًا من تداعيات الفضيحة.

 

كل ذلك، يدفع نتنياهو إلى توسيع رقعة الاستهداف الجغرافي في محاولة لصرف الأنظار، لكن هذه المناورات لم تعد تقنع أحدًا. فالهجوم على إيران – الذي كان يراد له أن يعيد للكيان صورته الردعية – تحوّل إلى كارثة سياسية وعسكرية، أجبرت “إسرائيل” على البحث عن قنوات تفاهم غير مباشرة لتجنُّب الرد الإيراني.

 

وفي هذا السياق، تقارير الصحافة الصهيونية – ومنها “هآرتس” – بدأت تتحدث بوضوح عن عجز منظومة الدفاع أمام ضربات اليمن، وتطرح خيار التفاهم مع إيران عبر واشنطن كحل وحيد لتفادي مزيد من الخسائر. والمفارقة، أن هذا الطرح يصدر عن معسكر كان حتى الأمس القريب يتبنى خيار تصفير الوجود الإيراني!.

 

إن القراءة العقلانية والدقيقة لمجريات الأحداث تكشف أن ما يُروّج له في الإعلام الغربي ليس إلا ستارًا يحجب التحولات الحقيقية التي يمكن تلمُّسها من خلال الرسائل السياسية المتبادلة، خصوصًا تلك التي تمر عبر وسطاء إقليميين مثل تركيا وسلطنة عمان. المعادلة الإقليمية تغيّرت… ومن لم يدرك ذلك، سيكون هو الخاسر الأكبر.

 

*العهد الاخباري: مختار حداد

التعليقات مغلقة.