صنعاء سيتي| طهران
أظهرت الأحداث الأخيرة أن الجمهورية الإسلامية في إيران ما زالت قائمة بقوة، الأمر الذي يثير قلق الغرب بشكل كبير. فبرنامجها النووي والبالستي، الذي استخدم كذريعة للحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل والولايات المتحدة مؤخرًا، لم ينجح في زعزعة استقرار النظام الإيراني.
تركزت هجمات العدو الأخيرة على استهداف القيادة والسيطرة في إيران، في محاولة لمحاكاة ما حدث في لبنان قبل الحرب، عندما تم استهداف القيادات وعملية “البيجر” الأمنية وصولاً إلى اغتيال السيد حسن نصر الله. لكن القيادة الإيرانية، بمرونة تامة، استطاعت إعادة ترتيب الوضع الداخلي في القيادة، مما مكنها من البدء بأعمال الرد النوعية التي أجبرت الكيان المؤقت على التراجع.
كان الهدف الأولي للعمليات الأمنية الإسرائيلية، بالاعتماد على عملاء الموساد في الداخل، هو إحداث إرباك لدى القيادة وبلبلة في الشارع الإيراني لفك أي تلاحم شعبي محتمل خلال الجولة العسكرية، وهذا ما لم يحدث.
إلى جانب مرونة القيادة في ترتيب البيت الداخلي، كانت ردة الفعل الشعبية على الاعتداء مفاجئة لجميع المراقبين. فمنذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، حاول أعداء الثورة بشتى السبل خلق وتأجيج حالات معارضة داخلية وزيادة مؤيديها بهدف إسقاط النظام القائم بقيادة السيد علي الخامنئي. لكن الشعب الإيراني أظهر تلاحمًا منيعًا أمام العدوان، تجلى في المظاهرات والتصريحات والتعاون مع الأجهزة الأمنية في التبليغ عن أي حركة مشبوهة. ويعود ذلك إلى أن الحسابات الداخلية والاختلافات السياسية لا تمس المسائل المرتبطة بالسيادة الإيرانية.
لقد ساهمت المرونة في الترتيب والتلاحم الشعبي بشكل كبير في إحباط هدف العدو، وهو إسقاط النظام من خلال “العنف القصدي”، وهو أسلوب يقوم على توجيه ضربة عسكرية لأهداف ذات قيمة بعد فشل أساليب التهديد والردع والدبلوماسية.
*العنف الكامن والإدارة المرنة للتصعيد
بعد احتواء الضربة الأمنية في اليوم الأول، أظهرت إيران من خلال أعمالها العسكرية المتغيرة عدديًا والمتصاعدة نوعيًا، اعتمادها لـ “أسلوب العنف الكامن”. هذا الأسلوب العسكري يستخدم لردع الاعتداء من خلال التلويح بالقوة دون استخدامها بشكل كامل، مما يحافظ على مخزون الصواريخ ويرسل رسائل قوة للعدو بأن القوات المسلحة قد أفشلت هدفه في ضرب القيادة والسيطرة، وأنها مستعدة لمعركة طويلة الأمد.
خلال الأسبوع الأول من الحرب، استطاعت إيران إعادة التوازن للتصعيد من خلال إدارة مرنة، حيث أظهرت قدرة على التماهي مع كل درجة تصعيدية يعليها العدو والرد بشكل يتناسب مع نوع وحجم العدوان. كما أظهرت من خلال أعمالها العسكرية التي تدل على المرونة، أن العدوان لم يدفعها نحو خيار الحرب الشاملة، بل إنها تمتلك خيارات عسكرية متعددة.
الإدارة المرنة في التصعيد وانتقاء الأسلوب العسكري المناسب لنمط المواجهة المفروض، وهو العنف الكامن، أدت إلى فشل أهداف الكيان وسلبته القدرة على الاستحكام والسيطرة على التصعيد. وقد تداركت القوى الغربية، وعلى رأسها الإدارة الأمريكية، الأمر. وصرح ترامب بعد الضربة الأمريكية على المنشآت النووية أنها لم تكن إلا بهدف إيقاف الحرب، فالخلل الذي أصاب الخطة العسكرية الإسرائيلية وضعهم أمام أفق مسدود، ولم يكن هناك إمكانية للخروج من المعركة دون تدخل أمريكي يعيد الأمور إلى نصابها، وهذا ما لم يحدث أيضًا.
*الهدف السياسي لم يتحقق
كانت الآمال الإسرائيلية قبل الضربة الأمريكية معقودة على أن يكون استهداف المنشآت الأمريكية كسرًا للتوازن العسكري الذي حققته إيران بفعل ضرباتها الصاروخية على الكيان. كان من المتوقع أن يكون دخول أمريكا الحرب من باب معالجة المشكلة النووية الإيرانية رادعًا لإيران بالدرجة الأولى أمام استكمالها الحرب وإخضاعها للعودة إلى المفاوضات صاغرة. وهذا كان المعنى الحقيقي لكلام ترامب عندما صرح بضرورة استسلام إيران.
جاء الرد الإيراني مستهدفًا القواعد العسكرية الأمريكية في العديد. واتضح أن الحسابات الأمريكية تختلف كثيرًا عما أمل به المسؤولون في الكيان، إذ أعلن ترامب مباشرة أن الحرب انتهت وضغط على نتنياهو لمنعه من استكمالها، وحتى الرد على الصاروخ الذي انطلق نحو الكيان بعد سريان الهدنة جاء بضربة شكلية من أجل “رد الاعتبار”.
اعتبر ترامب أن التدخل الأمريكي وما أظهره من سيطرة على القرار الإسرائيلي، وهو ما يعد إظهار قوة أمام العالم وإيران تحديدًا، سيجعل الأخيرة تعود لخيار الدبلوماسية. لكن ما تلا أيام الحرب من مواقف رسمية في الجمهورية وتصويت النواب على الخروج من الوكالة الدولية للطاقة الذرية وصولاً إلى خطاب النصر لمرشد الثورة الإسلامية السيد علي الخامنئي، الذي أكد فيه نصر إيران على الأعداء وتضخيمهم للأعمال العسكرية وفشلهم في تدمير المنشآت النووية، وضع الإدارة الأمريكية أمام مأزق كبير. خاصة بعد تسريب الوثائق الصادرة عن وكالة الاستخبارات الأمريكية لنتائج استهداف منشآت إيران النووية، وبشكل خاص فوردو، والتي تفيد بأن الضربة لم تدمر البرنامج النووي بل أخرته لأشهر فقط.
يقول الجنرال البروسي وصاحب كتاب “عن الحرب” أن الهدف من الحرب هو خلق بيئة يمكن فيها تحقيق هدف سياسي، وهذا ما فشل الكيان والإدارة الأمريكية في تحقيقه خلال المواجهة العسكرية. وعليه، نحن اليوم أمام محاولة جديدة في تحقيق ذلك.
*أمريكا والكيان أمام خيارين
صرح ترامب يوم الجمعة الفائت في رد على خطاب النصر للسيد خامنئي أن على إيران العودة للاندماج في النظام العالمي وإلا ستزداد الأمور سوءًا بالنسبة لها. لكن ما هي الخيارات أمامه؟
لا شك أن خيار الدبلوماسية أمسى ضعيف الترجيح، فالموقف الإيراني الموحد يفيد بأن الدولة عازمة على استكمال برنامجها النووي السلمي وعدم قبول شروط يريد الغرب من خلالها أن تخضع وتستسلم. لذا، فإننا اليوم أمام الخيارات العسكرية، وتتعدد سبل المعالجة من خلالها فإما الحرب أو الاستنزاف.
هناك لعبة أمريكية أصبحت عالمية تُعرف بـ “اضرب الخلد” (Whack-a-Mole)، يحاول اللاعب فيها ضرب الخلد الذي يغير مكان تموضعه باستمرار في محاولة للهروب مما سيتلقاه من ضرب. في السياسة والعسكر، اعتمد هذا المصطلح من قبل العديد من القادة والمسؤولين. ففي الحرب على أفغانستان، اعتمد قائد القوات الأمريكية آنذاك، ديفيد بتريوس، هذا المصطلح كوسيلة للتعبير عن الفشل في القضاء على طالبان التي اعتمدت جبال تورا بورا مخبأ حصينًا لها.
واليوم، وبعد تسريب الوثائق الاستخباراتية والمواقف الإيرانية المشددة على استكمال البرنامج النووي، أصبح البرنامج يحيطه غموض كبير. لذا، فإن الإدارة، في ظل توقف الحركة الدبلوماسية بينها وبين إيران، قد تعمد لهذه السياسة من خلال الكيان، لضرب إيران بشكل متكرر لاستنزافها واكتشاف ما هو غامض. هذا الخيار لا يضمن لهم ما ستؤول إليه الأمور، لكن الغرب يعتبر أن التحولات التي تلت السابع من أكتوبر وما مُني به محور المقاومة من ضربات هي لحظة مناسبة قد لا تطول فيها فترة الاستنزاف لإيران للوصول إلى سقوطها.
أما الخيار الثاني فهو الحرب الشاملة، وهو خيار مرجح لكنه يضع المنطقة والعالم أمام معركة طاحنة لا يعلم الأمريكي إلى أين ستقوده.
التعليقات مغلقة.