إسرائيل ما بعد “فوردو”: حان وقت المعركة السياسية
موقع صنعاء سيتي – صحافة
قبل أن تتّضح نتائج الضربة الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية الثلاث، وحتى قبل أن يُعرَف حجم الضرر الحقيقي الذي ألحقته «بمنشأة فوردو» تحديداً، مع تحوّل الأخيرة إلى رمز لـ«الانتصار الإسرائيلي – الأميركي» على إيران، كانت إسرائيل تحتفل بالمهمّة المنجزة. والاحتفال المبكر هذا، الذي تبدّى في الوعي الجمعي الإسرائيلي وكأنه نهاية عقود من القلق الأمني من احتمال تسلُّح إيران نوويّاً، رفَده إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تنفيذ «الضربة» بنجاح، وتحقيقها «نتائج كاملة»، وهو ما استقبلته تل أبيب كإعلان أوّلي للنصر.
الأكيد أنّ هذا التطوّر يمثّل انتصاراً دبلوماسيّاً وإستراتيجيّاً لرؤية إسرائيل، التي عملت طوال السنوات الماضية على بلورتها، وتحديداً لجهة جَرّ الولايات المتحدة إلى الصراع المباشر مع إيران، ونقل العبء العسكري إليها. لكن، في الوقت نفسه، يَطرح ذلك الاحتفال المبكر أسئلة كبيرة، ليست لدى إسرائيل إجابات عليها إلى الآن، في ما يُعيد إلى الأذهان ردود الفعل المماثلة التي أعقبت الضربة الإسرائيلية الأولى، في الـ13 من الشهر الحالي، والتي أُعلن عنها أيضاً بحماسة، قبل أن يتّضح حجم الإنجاز الفعلي المتواضع.
ومن بين أبرز تلك الأسئلة: ما مدى دقّة الاستهداف الأميركي؟ وهل تمّ بالفعل إلحاق ضرر إستراتيجي بالبرنامج النووي الإيراني، أم أنه أُعيق مؤقّتاً؟ وما هي الآثار المتوقّعة لهذا التصعيد، ليس على صعيد المواجهة العسكرية المباشرة فقط، بل على مستوى التوازنات والصراعات المقبلة أيضاً؟ وهل باتت إسرائيل في موقع يسمح لها بإعلان انتصارها، أم أنّ ما حدث لا يزيد عن كونه تأجيلاً جديداً لاستحقاق نووي إيراني مقبل؟
على أنّ ممّا لا يقلّ أهمية عمّا تقدّم، ردود فعل إيران المحتملة، ومدى استعدادها للردّ، وطبيعة الخيارات التي قد تلجأ إليها، في ظلّ ما بدأ يطفو لدى الأوساط السياسية والأمنية الإسرائيلية حول طبيعة الرهان الجديد، وعنوانه: هل يكمن النصر الحقيقي في استهداف البنية النووية فقط؟ أم أنّ الحديث الآن يدور حول رهان أوسع وأبعد، يهدف إلى استخدام هذا التصعيد ونتائجه الآنية، كمقدّمة لإحداث تغيير جوهري في النظام الإيراني نفسه؟
على أي حال، لا يمكن عدّ التحرك الأميركي محدوداً، أو النظر إليه ببساطة أو باستخفاف. وإذ قد يستغرق الكشف عن الأثر الكامل للضربات أياماً أو أسابيع، فإنّ ما حدث ليس إجراءً عادياً، بل جزء من تحوّل إستراتيجي في طبيعة الصراع بين طهران من جهة، وواشنطن وتل أبيب من جهة أخرى، وهو ما يجعل إيران أمام اختبار غير مسبوق، منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979.
“ربّما نكون أمام تحوّل إستراتيجي، من المعركة العسكرية إلى المعركة السياسية”
ذلك أنّ المنشآت النووية ليست مجرّد مواقع عسكرية تقنية، بل هي تمثّل ركيزة أساسية لتعزيز الموقع الدفاعي لطهران، وللتملّص من الضغوط والتحدّيات الغربية والإقليمية، كما أنها تحوّلت إلى رمز يرتبط بالهيبة والمكانة الوطنيتين. لكنّ الهوية السياسية والأيديولوجية لا تُعفي النظام من حسابات الواقع والإستراتيجية؛ فالمواجهة الحالية ليست فقط مع إسرائيل أو الولايات المتحدة، بل تشترك فيها عوامل وعناصر تضغط على الجمهورية الإسلامية. ولهذا، فإنّ أيّ خطوة خاطئة، كفيلة بتعميق الأزمة، وقد تصل إلى حدّ لا يمكن السيطرة عليه.
ويبدو أنّ التحدّي الحقيقي أمام صنّاع القرار في طهران، يتمثّل في كيفية التعامل مع هذا التصعيد من دون الانجرار إلى ردّ فعل انفعالي يخدم أعداء البلاد المتربّصين، وهو ما يفرض عليهم بناء ردود الفعل على حسابات دقيقة.
في المقابل، لا يمكن فهم الموقف الإسرائيلي من التطوّرات الأخيرة إلّا عبر قراءة ثنائية الاتّجاه. فمن جهة، يرى صنّاع القرار في تل أبيب في ما حدث إنجازاً إستراتيجيّاً؛ إذ إنّ ضربة الولايات المتحدة على منشأة «فوردو»، بغضّ النظر عن حجم الضرر الذي ألحقته بها، خطوة ضرورية لم يكن من الممكن إنهاء الحرب من دونها.
ومن جهة أخرى، فإنّ الإنجاز المحقَّق، وإنْ كان كبيراً، ليس مضموناً ولا محصّناً بذاته؛ ذلك أنّ الحروب الاستباقية أو الوقائية التي تستهدف البنية التحتية للأعداء، وفق ما تشير إليه التجارب الإسرائيلية السابقة، لا تعني أنّ التدمير المادي يشكّل نهاية للتهديدات. فما يتمّ هدمه اليوم يُعاد بناؤه لاحقاً، إذا لم يُصحَب ببناء سياسي وإستراتيجي يمنع إعادة التسليح أو استعادة القدرات.
ويمثّل التحدّي المتقدّم أهمّ ما تواجهه إسرائيل الآن؛ أي كيفية تحويل «الكسب العسكري المؤقّت» إلى «إنجاز إستراتيجي دائم»؟ قد تكون الإجابة الموجودة على طاولة القرار في تل أبيب، هي في العمل على بلورة اتفاق سياسي جديد، من ركائزه الأساسية منع إيران من إعادة ترميم برنامجَيها النووي والعسكري، وهو ما يعني أنّ المعركة الحالية لا تنتهي في ساحة القتال، بل تمتدّ إلى طاولة المفاوضات، إذ يجب أن تعمل إسرائيل جنباً إلى جنب مع الأميركيين على وضع نظام ضمانات، يُلزم طهران بالبقاء بعيدة عن القدرة النووية، ليس لسنوات فحسب، بل لعقود مقبلة أيضاً.
بكلمات أخرى، ربّما نكون أمام تحوّل إستراتيجي، من المعركة العسكرية إلى المعركة السياسية؛ وهو تحوّل ليس تلقائيّاً، ولا يمكن تحقيقه عبر الضربات العسكرية وحدها، إذ إنه يتطلّب تسليط ضغوط متواصلة، دبلوماسية واقتصادية وأحياناً رمزية، على النظام الإيراني، لإجباره على تقديم تنازلات لا يمكن التراجع عنها، وتجعل من الصعب عليه والمكلف العودة إلى المربّع النووي.
أمّا من وجهة النظر الإيرانية، فإنّ التحدّي يتّخذ بُعداً مختلفاً. ذلك أنّ طهران، ورغم الخسائر التي تكبّدتها، ما تزال مصرّة على الحفاظ على هامش حرّية عمل إستراتيجي، وعلى عدم تقديم تنازلات استسلامية، والمحافظة على سقف ردود لا يسمح بفرض الشروط عليها. وهكذا، فإنّ الرهان الإيراني واضح: منع ترجمة الإنجازات الإسرائيلية – الأميركية إلى نصر سياسي دائم، عبر مجموعة من الخطوات الدفاعية، والامتناع عن التوقيع على وثيقة استسلام، يطلبها الجانبان الأميركي والإسرائيلي في هذه المرحلة.
*يحيى دبوق: الإخبارية اللبنانية
التعليقات مغلقة.