“الغارديان”: حياة النازحين بين الفيضانات والحروب

صحيفة “الغارديان” البريطانية تنشر مقالاً يتناول أزمة النزوح الداخلي حول العالم، من خلال تسليط الضوء على تجارب شخصية لثلاثة نازحين داخليين من ثلاث دول مختلفة: بنغلادش، السودان، وكولومبيا.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

في العام الماضي، ارتفع عدد النازحين داخل بلدانهم حول العالم إلى 83.4 مليون شخص، وهو أعلى رقم وُثق إطلاقاً. كما أجبر رجال ونساء وأطفال وعائلات بأكملها وأجيال على الفرار من ديارهم نتيجة الصراعات أو العنف أو الكوارث الطبيعية.

يقول الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين يان إيغلاند، معلّقاً على أحدث الأرقام الصادرة عن مركز رصد النزوح الداخلي إنّه “نادراً ما تتصدّر قضية النزوح الداخلي عناوين الصحف، ولكن بالنسبة إلى أولئك الذين يعيشون فيها، فإنّ المعاناة قد تستمرّ لسنوات”.

في التقرير أدناه رواية 3 أشخاص من النازحين الداخليين من 3 بلدان مختلفة، يوضّحون ما يعنيه إجبار الناس على ترك منازلهم وحيواتهم والفرار نحو المجهول.

بنغلادش

لطالما عُدّت بنغلادش من أكثر دول العالم تأثّراً بتقلّب المناخ العالمي، الذي يؤدي إلى زيادة في أعداد النازحين داخلياً، بسبب الكوارث الطبيعية. وقد وصل العدد خلال 4 سنوات متتالية إلى 2.4 مليون شخص حتى العام الماضي، وفقاً لتقرير مركز رصد النزوح المذكور.

بيبي بيغوم (40 عاماً)، لديها ولدان من ذوي الاحتياجات الخاصّة، نزحت أوّل مرّة إثر الفيضانات الكارثية التي عمّت معظم أنحاء بنغلادش في عام 2020. تقول: “في كلّ عام قبل بدء موسم الرياح الموسمية، تغمرني مشاعر القلق بشدّة. ويزداد سوءاً حين تبدأ أول قطرات المطر بالتساقط”.

يتعرّض شمال شرق بنغلادش لهطول أمطار غزيرة خلال موسم الرياح الموسمية، وتستمرّ لأشهر متتالية، حيث تتساقط نحو 80% من الأمطار السنوية في البلاد من حزيران/يونيو، إلى تشرين الأوّل/أكتوبر. وبحلول نهاية الموسم، يكون ما يقرب من ثلث بلادنا مغموراً بالمياه.

وذكرت بيغوم: “أعلم أن الماء ضروري للبقاء، ولكن غزارته هنا قادرة أيضاً على تدمير كل ما يعترض طريقها، لقد عشت هذا بنفسي”.

في حزيران/ يونيو 2022، غمرت الفيضانات الكارثية المفاجئة البلاد، وهي الأسوأ التي شهدتها بنغلادش منذ نحو قرن، ما أسفر عن مقتل العديد من الأشخاص، وجُرفت قريتي وترك الآلاف الناس مشرّدين، وعائلتي من بينهم. وفي غضون أيام قليلة، فقدنا كل شيء، منزلنا، ومحاصيلنا، وماشيتنا، وكلّ مدّخرات حياتنا.

لقد كنت في العمل عندما بدأ منسوب مياه الفيضان بالارتفاع، وحين وصلت إلى المنزل كانت قريتي خالية تماماً. وقوارب الإنقاذ التي وصلت لنقل الناس إلى ملاجئ الطوارئ قد غادرت بالفعل، وعلقت هناك مع عائلتي. كان زوجي شفيق يراقب ابنينا يونس وبابلو، وكلاهما من ذوي الاحتياجات الخاصّة، وكانا مرعوبين.

لم يستغرق الأمر سوى بضع ساعات حتّى غمرت المياه منزلنا. صعدنا إلى السطح راجين الاستغاثة بيأس، بينما استمرّ ارتفاع منسوب المياه.

كنت مقتنعة بأنّنا سنغرق جميعاً. مع أنّني أجيد السباحة، إلّا أنّ ولديّ لا يجيدانها، فقرّرنا، أن نموت معاً. ولحسن الحظّ، أنقذنا صياد بقاربه في اللحظة الأخيرة. ونقلنا إلى ملجأ الطوارئ، لكنّ الأمور ازدادت سوءاً بعد ذلك.

اعتقدنا أنّ الأمر مؤقّت، لكنّنا علقنا هناك مع مئات العائلات الأخرى، محشورين في مكان مزدحم وغير صحّي. كنّا نضطرّ للوقوف في صفوف لساعات لاستخدام الحمّام، وكان ولديّ يتبوّلان على نفسيهما، لقد كان الوضع كابوساً حقيقياً.

وبعد تدمير منزلنا، اضطررنا للرحيل. تنقّلنا بين ملاجئ عدة، ثمّ في عام 2023 انتقلنا إلى كوخ متهالك في حيّ فقير مكتظّ بمدينة سيلهيت المجاورة، حيث كنّا نأمل أن نجد عملاً. وقد حصلت على وظيفة خادمة منزلية، وعمل زوجي سائق عربة توك توك. لكن، بعد بضعة أشهر، سقط عن درّاجته، وأصيب إصابة بالغة في ظهره تركته عاجزاً عن العمل، وصرت المعيلة الوحيدة لأسرتي، حيث كنت أكسب 5000 تاكا فقط، أيّ ما يعادل 30 جنيهاً إسترلينياً في الشهر.

في قريتي، كنّا نعرف الجميع، وكان هناك دائماً أشخاص يمكننا الاعتماد عليهم للمساعدة، لقد فقدنا كل ذلك. والسنوات القليلة الماضية، كانت صعبة للغاية. بعد أن خسرنا كلّ شيء بسبب الفيضانات، اضطررنا للبدء من الصفر مرّة أخرى.

كنا ندّخر ما يكفي لإرسال أبنائنا إلى مدرسة خاصّة، لكن الآن يبدو هذا الحلم مستحيلاً. لا نملك إلّا ما يكفي لسدّ رمقنا، وحتّى هذا يشكّل كفاحاً يومياً.

في العام الماضي، عادت الفيضانات مجدّداً، ودمّر منزلنا المصنوع من صفائح التنك الصدئة جزئياً، ولا أستطيع تحمّل تكاليف إصلاح سقفه الآن، حتّى مع هطول أمطار خفيفة، يصبح رطباً وموحلاً من الداخل.

الرياح لا تطاق. جميعنا نشعر بالبرد وولداي يمرضان كثيراً، ولا أستطيع شراء الدواء. أشعر دائما أنّني خذلتهما. أقول لهما إنّ هذا الوضع مؤقّت، لكن في الواقع، لا أعتقد أنّ الأمور ستتحسن. لم نفقد منزلنا فحسب، بل فقدنا أيضاً علاقاتنا الوثيقة بعائلتنا وجيراننا، كأنّنا لن نتمكّن من استعادة ذلك الزمن أبداً.

السودان

في عام 2024، استضاف السودان 11.6 مليون نازح داخلي، وهو أكبر عدد موثّق على الإطلاق في دولة واحدة. وقد أدّى القتال بين الجيش السوداني وقوّات “الدعم السريع” إلى أسوأ أزمة إنسانية في العالم. مبارك إبراهيم (50 عاماً)، لديه 5 أطفال، اضطرّ هو وعائلته إلى الفرار مع أبناء قبيلته الزغاوة، وهي جماعة إثنية أفريقية استهدفتها قوّات “الدعم السريع” باستمرار.

يقول إبراهيم لم يكن أمامنا خيار سوى الرحيل. كانوا يقصفوننا على مدار الساعة بجميع أنواع الأسلحة الثقيلة. وقبل 3 أسابيع فقط، شنّت “قوّات الدعم السريع” هجوماً على قريتنا سلومة في شمال دارفور. وأحرقوا المنازل، وأطلقوا النار على المدنيين في الشوارع. ومعظم من قتلوا كانوا من الأطفال والنساء والشيوخ.

لديّ 5 أطفال، فتاتان و3 صبيان تتراوح أعمارهم بين 3 إلى 13 عاماً، كنت بحاجة إلى إخراجهم. وفي الليل بينما كانت القرية تتعرض للهجوم، تمكّنا من الفرار واتّجهنا غرباً. كان الأمر صعباً وخطيراً للغاية. إحدى بناتي، البالغة من العمر 11 عاماً أصيبت برصاصة طائشة في يدها.

تركنا كلّ شيء خلفنا في مسقط رأسي حيث عشت لعقود. ورغم أنّني أعتبر الآن نازحاً رسمياً، بيد أنّ الحقيقة أنني قضيت حياتي كلّها في مخيم للنازحين، لأن قريتي سلومة تقع بالقرب من الموقع الأصلي لمخيم زمزم، الذي بني عام 2004 لإيواء أعداد هائلة من النازحين، بسبب الحرب في دارفور.

كما ازداد عددهم ليصل إلى نحو 700 ألف في أكبر مخيم للنازحين في السودان. ومع نموّه، غمرت مياه زمزم قريتي، التي أصبحت الآن في قلب مركز المخيّم. وبعد فرارنا من سلومة، مشينا نحو 30 كيلومتراً إلى بلدة طويلة، لكنّنا لا نشعر بالأمان، وخاصّة الأطفال والنساء، خوفاً من أيّ هجوم جديد للميليشيات.

الوضع أفضل الآن من ذي قبل، مع أنّنا لا نملك شيئاً، وينام الناس تحت الأشجار، أو في العراء في الوديان. بعضهم توجّه إلى تلال جبل مرّة. ولا يوجد طعام، ونعاني من نقص حادّ في المياه، فليس لدينا مصدر لها وقد بدأ فصل الصيف، ودرجات الحرارة مرتفعة جداً. وكان قد توفّي بعض الفارّين من هجوم قوّات “الدعم السريع” على زمزم عطشاً في طريقهم إلى قرية طويلة. وكانت النساء المسنّات هنّ الأكثر تضرّراً بعد نفاد الماء في رحلات وصلت إلى 50 كيلومتراً سيراً على الأقدام.

كذلك نعاني نقصاً كبيراً في الأدوية أيضاً. وحين أصيبت ابنتي بطلق ناري بيدها، كان من الصعب جداً مساعدتها. وليس بمقدور أيّ جهة خارجية الوصول إلينا، فالوضع حرج بالفعل. والدتي أيضاً عمرها 75 عاماً وهي مريضة جداً. أخشى أن تموت بسبب ارتفاع ضغط الدم وأمراض أخرى.

كذلك، يصل المزيد من الناس يومياً من زمزم أو الفاشر، حيث الوضع غير آمن للغاية. ومع ذلك، يستمرّ الناس في الوصول إلى قرية طويلة، قادمين من جهات مختلفة مستخدمين طرقاً أطول، بينما يتزايد عدد نازحي دارفور يومياً.

كولومبيا

تعاني كولومبيا من إحدى أشدّ أزمات النزوح الداخلي في العالم، وقد بلغت أعداد النازحين نحو 7 ملايين شخص نتيجة لعقود من الصراع والعنف حتّى حلول منتصف العام الماضي. وبينما تعترف الحكومة بأحقّيتهم في الحصول على المساعدات والتعويضات، تستمرّ الاشتباكات العسكرية بين الجماعات المسلّحة وتزيد أعداد النازحين على التوالي.

روزميرا كامبوس أرملة (30 عاماً)، لديها 4 أطفال اضطرّت لمغادرة قريتها بسبب الاشتباكات بين الجيش والجماعات شبه العسكرية المسلحة. تقول: “أنا قائدة ومتحدّثة باسم شعب إمبيرا-كاتيو من السكّان الأصليين في البلاد في منطقة تشوكو موطني. وأعيش حالياً في بوغوتا منذ سنوات، لأنّ ناحيتي أصبحت ساحة حرب، ولا يمكننا العودة إلّا إذا ضمنت الحكومة سلامتنا”.

جيش التحرير الوطني، أكبر جماعة شبه عسكرية في كولومبيا وهم مسلّحون برشاشات يقاتلون بها الجيش الرسمي، ونحن عالقون وسط تبادل إطلاق النار. إنّها منطقة خطرة بالكامل. وأحياناً، تقوم جماعات مسلّحَة بتهديدنا في محاولة منهم لتجنيد أطفالنا والتعدّي على أراضينا من أجل التعدين، وعلينا حماية أنفسنا بالحرس الوطني، فكلّ ما نريده هو أن نعيش بسلام.

عندما كنت في 15 من عمري، أخذوني ذات مرّة واغتصبوني. كنت أجمع الطعام. كان الأمر مروّعاً. الآن، تعيش هنا 150 عائلة في الخيام التي نُصبت لنا في الحديقة الوطنية، إحدى أشهر حدائق بوغوتا. لا أريد البقاء هنا. لا أحبّ هذا المكان. الجوّ بارد ورطب، ونعاني المرض دائماً. لكن لا يمكننا العودة إلى ديارنا لأنّ الوضع خطير للغاية.

من الصعب جداً تدبر أموري. لديّ 4 أطفال تتراوح أعمارهم بين سنتين و11 سنة، ولقد توفّي زوجي قبل عامين خلال الجائحة. والآن، أصنع منتجات حرفية كالأساور والقلائد والملابس، وأبيعها في الشارع. لكنّ الناس لا يشترونها دائماً، ما يضطرّني أحياناً للتقشّف والجوع. ولا يوجد فرص عمل لنا.

منطقتي التي نزحت منها، خضراء وجبلية خلّابة، تتدفّق فيها الشلالات والأنهار صافية نقية مياهها، وما يزال لديّ أبناء عمومة وخالات يعيشون هناك، حيث كنّا نعتمد على “موز الجنّة” الذي ينبت طوال العام والكسافا والذرة التي نزرعها في أرضنا التي كانت تفيض بالحيوانات البرّية التي اختفى معظمها منذ بدء الصراع. حيث يقوم الجيش برشّ المنطقة بالموادّ الكيميائية منذ عام 2015 لمنع المسلّحين من زراعة محاصيل الكوكا، ما دمّرَ البيئة الطبيعية بأكملها، ولا نستطيع زراعة المحاصيل، فالأرض لا تنتج إلّا القليل جداً.

منذ عام 2019، أعيش في بوغوتا في 5 أماكن مختلفة. وأتلقى دروساً في اللغة الإسبانية مع أستاذ في إحدى الكلّيات، وأستطيع الآن فهم بعض الأمور. عشت مع عائلتي معظم الوقت في خيم نصبناها في الحدائق، لكنّ الظروف كانت سيئة، فاضطررنا للرحيل. عاد نحو 400 منّا للعيش في هذه الحديقة مجدّداً، وللاحتجاج وحثّ الحكومة على اتّخاذ إجراءات حاسمة بمساعدتنا، لكنّها لا تفي بوعودها أبداً.

بعضنا يريد أن تساعده الحكومة في العودة إلى مسقط رأسه، بينما يطلب آخرون الدعم للانتقال إلى مكان آخر تماماً. كما أنّ السكّان المحلّيين لا يريدوننا هنا، وقد يكونون عدوانيين أحياناً. هذا يحزنني، عليهم أن يظهروا لنا بعض الاحترام، فنحن أيضاً لا نريد أن نكون هنا، لكن ليس لدينا خيار آخر.

 

*نقله إلى العربية: حسين قطايا.

التعليقات مغلقة.