فلسفة الصراع الحضاري الغربي والبديل الإسلامي
بمجرد نهاية الحرب الباردة، التي كان من بين نتائجها الأساسية، تفكك الاتحاد السوفياتي، وانهيار الشيوعية، بالموازاة مع ذلك، انتصار النموذج الغربي، ممثلا في النظام الليبرالي الرأسمالي، بهذا الانتصار عاد الغرب كتلة واحدة، بعد أن كان منشقاً بين فكرتين متصارعتين، وأصبح العالم تحت الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بعدما كانت تتنازعه الثنائية القطبية، لقد نظر البعض الى هذا الانتصار كدلالة على عالمية القيم الغربية بوجهيها الليبرالي والرأسمالي، جاعلا منها النموذج الأخير بعدما كتب التاريخ نهايته الحتمية، وتوصلت البشرية إلى بغيتها، عبّر عن هذه الرؤية بكثير من الثقة والتفاؤل، الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما (1952) في مقالة له بعنوان: «نهاية التاريخ» عام 1989.
في مقابل ذلك، ظهرت أطروحة أخرى، تدعو الغرب إلى ضرورة اليقظة، وأخذ الحيطة والحذر، مذكرةً إياه أن الصراع حتى وإن انتهى إيديولوجياً بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، فهذا لا يعني أن البشرية على موعد مع لحظة نهاية التاريخ، وأن الإنسان الغربي هو خاتم البشر، بل الأمر على خلاف ذلك، فهناك عوامل أخرى متحكمة في الصراعات، ولعل أبرزها الاختلاف الثقافي والحضاري، فهو العامل الحاسم بعد الآن في نشوب الصراع، وهو المعيار المؤثر في تكتل دول العالم واصطفافها في المستقبل، كأنّ أطروحة صدام الحضارات عام 1993 للمفكر الأمريكي صموئيل هنتنغتون (1927-2008) بمثل هذا التصور، جاءت كردة فعل على رؤية نهاية التاريخ، لكي تكبح نشوة الفرحة والتفاؤل المفرط، الذي حاول فوكوياما أن يظهره.
في هذه الأطروحة يقرُّ هنتنغتون بأنه لا توجد حضارة عالمية، بل عالم من الحضارات المختلفة، وفي العالم، حسبه، سبع أو ثماني حضارات، إذ عددها كالآتي: الحضارة الغربية، والإسلامية، والصينية الكونفوشيوسية، والأرثوذكسية، والهندية، واليابانية، والأمريكية اللاتينية، وربما الإفريقية، وهي، كما يعلق هنتنغتون بالقول: «حضارات تتمايز بعضها عن البعض، باللغة، والتاريخ، والثقافة، والعادات، وأهم من ذلك الدين»، ولكل منها رؤيتها الخاصة في الحياة، ونظرتها المختلفة للإله والإنسان والكون، وللعلاقة بينهم، لذلك يدعو الغرب إلى وضع الحضارة الإسلامية والصينية على رأس أولوياته في ضرورة مواجهتهما إلى أن يتم سحقهما وكسر شوكتهما.
ومن المفكرين الذين عالجوا هذه الأطروحة المفكر المصري محمد عمارة (1931-2020)، وهو من المفكرين الإسلاميين المبرزين، بإنتاجه الغزير، وآرائه السديدة، ومقدرته على الحجاج، وامتلاكه لناصية الجدال، خاض معارك شرسة ضد خصومه في الأفكار، ومع المختلفين معه في العقيدة، كان وسطياً معتدلا، مجدداً في ميدان الفكر والثقافة، مدافعاً شرساً عن الإسلام وقضاياه، ولأنه كان كذلك حاول أن يقدم رؤية مختلفة لصراع الحضارات، وتفسيراً علمياً لها فيه الكثير من الهدوء والحكمة، مبتعداً بذلك عن وساوس نظرية المؤامرة وهواجسها، التي برع العقل العربي والإسلامي في استحضارها عند مناقشة مثل هذه القضايا، بل يذهب عمارة إلى أكثر من ذلك، داعياً المسلمين ونخبهم إلى شكر فوكوياما وهنتنغتون لصراحتهما غير المعهودة من نظرائهما وأشباههما.
يدعو الأستاذ محمد عمارة إلى تأمل أطروحتي نهاية التاريخ وصدام الحضارات تأملا جيداً، والوقوف على إيجابياتهما، والواجب، حسبه، أن ينظر إليهما «باعتبارهما إعلاناً صريحاً وصادقاً عن واقع موقف الحضارة الغربية من الأمم والقوميات والحضارات غير الغربية، وواقع موقف الليبرالية الرأسمالية من الفلسفات والمذاهب الاجتماعية الأخرى»، وبناء على هذا، يخلص عمارة إلى أنه يجب علينا كمسلمين أن نكون شاكرين لأمثال فوكوياما وهنتنغتون على صدقهما «في إعلان حقيقة واقع الموقف الغربي من الآخرين، كل الآخرين»، بعيداً عن لغة الكذب والنفاق والضحك على الذقون.
ومن ثم، فإن هاتين الأطروحتين هما، في الحقيقة، تعبير عن النظرة المتعالية للغرب تجاه الآخر، وعن نظرة المركز المحتقرة للهامش، وعن أحاديته وعدم قبوله للتعددية، لأنه يسعى، فيما يسعى إليه، إلى احتواء الآخرين تحت جناحه، ومن يرفض ذلك أو يتحدى، فقد يصب عليه لعنات غضبه.
يستدعي الدكتور عمارة عالم تاريخ الأفكار، لكي يبين أساس نزعة الصراع التي يتميز بها الغرب، ويرى أنها مبنية، في الأساس، على ثلاث أفكار كبرى، متمثلة أولا في الهيغلية كفلسفة للتاريخ، باعتبارها تؤسس للصراع بين السادة والعبيد، وقد قامت هذه الفلسفة «على نسخ العصر الجديد للعصر القديم ، عبر الصراع مع مكوناته والحلول محلها»؛ والداروينية التي تتأسس أساساً على الصراع بين الأحياء، والبقاء سيكون، بطبيعة الحال، للأصلح والأقوى؛ أما الأخيرة، فتتمثل في الصراع الطبقي، سواء ماركسية ماركس أو الليبرالية الرأسمالية، وكلتاهما تعتمد الصراع كفلسفة للوصول إلى اليوتوبيا، عالم بلا طبقات (البروليتارية) أو انتصار الليبرالية الرأسمالية (البرجوازية)، كنهاية للتاريخ.
على هذا الأساس، فإن ما أفصح عنه هنتنغتون في الموقف الغربي المنحاز لفلسفة الصراع بين الحضارات، بصراحة قلّ نظيرها، ليس موقفاً ذاتياً اختاره، وبشّر به، ودعا إليه، إنما هو حتمية واقعية تؤكدها النزعة الصراعية التي تأسس عليها الغرب، وتؤيدها أحداث التاريخ ومكره، وتفرضها ضرورات الواقع ومراراته، وهو، فوق ذلك، استراتيجية يعتمدها العقل الغربي، لكي يفرض نموذجه الأحادي على الآخرين، وهو لم يكن، في الحقيقة، سوى واصف لهذه الحال، في هذا الصدد يصف الدكتور عمارة هنتنغتون بالقول إنه: «مجرد واصف لتاريخ هذا الصراع الغربي مع الحضارة الإسلامية، عندما يقول: إن الصراع على طول خط الخلل بين الحضارتين الغربية والإسلامية يدور منذ 1300 عام، وعلى كلا الجانبين، ينظر إلى التفاعل بين الإسلام والغرب على أنه صدام حضارات».
ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن الغرب ينظر إلى حضارته على أنها صاحبة السيادة والزعامة في العالم، فهي «المركز والمنهاج والطريق الذي يجب على الآخرين تقليده واللحاق به»، ولن يقبل، بأي حال من الأحوال، بنموذج يطرح نفسه كبديل له، لذلك وضع هنتنغتون الإسلام كأكبر تهديد للغرب، والقادر على تقويض سيطرته وهيمنته، ولذلك وجهت ضده مدافع الغرب بعد سقوط الاتحاد السوفياتي مباشرة، وهي مازالت مصوبة ضده إلى الآن.
وحتى تبقى حضارة الغرب محافظة على عرش الزعامة والسيادة، يقترح صاحب أطروحة الصدام على الغرب خطة عمل أو استراتيجية مواجهة في كيفية إدارة معركة الصراع مع الحضارات الأخرى مستقبلا، ومراحلها وأولياتها، إذ يقسم مراحل الصراع إلى مرحلتين:
في المرحلة الأولى، وهي القريبة والمستعجلة والأهم، وألوياتها تكمن في المواجهة مع الإسلام والصين، حيث ينصح هنتنغتون الغرب بضرورة توحيد جهوده وأدواته وقواه لمواجهة الحضارة الإسلامية والصينية، وبعد الانتهاء من هذه المواجهة بكسر شوكة كل من الحضارتين وسحقهما، ينبغي الانتقال مباشرة إلى المرحلة الثانية، وذلك باحتواء الحضارات الأخرى، لا سيما تلك التي حققت فتوحات في القوة والتحديث العسكري والاقتصادي، والعمل على دمجها في حضارة الغرب، ومن ثم، يصل العالم إلى نقطة النهاية، حيث يوتوبيا نهاية التاريخ، التي بشر بها فوكوياما من قبل.
للإسلام نظرته الخاصة والمتميزة للآخر مختلفة عن نظرة الغرب، فهذا الأخير ينظر إلى الآخر كعدو ينبغي القضاء عليه أو احتوائه إن أمكن، أما الإسلام بفلسفته التعددية وبنظرته الشاملة يراه كأخ في الإنسانية يجب التعارف عليه، والتعايش معه، وبناء على هذا تولدت رؤية التدافع بين الحضارات كبديل عن الصراع بينها، والتدافع رؤية كونية «تقوم على التعدد والتساند والتوازن والارتفاق».. فما معنى التدافع الحضاري؟
التدافع، وفقاً للأستاذ عمارة، هو «حراك اجتماعي وثقافي وحضاري، أي تنافس وتسابق بين الحضارات، يعدل المواقف الظالمة، والممارسات الجائرة، والعلاقات المنحرفة، دون صراع يصرع الأخرى، فيلغي التعددية، وإنما بالحراك والتسابق الذي يعيد العلاقات المختلة إلى درجة التوازن والعدل في العلاقات بين مختلف الفرقاء».
وبذلك، فالتدافع الحضاري هو فلسفة إسلامية للعلاقة بين الحضارات، يتوسط بين الصراع، الذي هو إلغاء للتعددية ودعوة إلى تصفية الآخر، وبين السكون، بوصفه «مواتاً»، يؤدي، في نهاية المطاف، إلى التبعية والتقليد.
وبعد هذه المقارنة بين الصراع الحضاري والسكون والتدافع، يصل الدكتور محمد عمارة في تحليله الأخير إلى أن الصراع الحضاري شأنه شأن نقيضة السكون الحضاري «ليس سبيل التقدم والصلاح والإصلاح، وإنما سبيل التقدم هو وسطية التدافع والتنافس والتسابق على طريق التقدم والنهوض والخيرات».
وعليه فإن فلسفة التدافع الحضاري هي البديل الإسلامي لفلسفة الصراع الحضاري الغربية، وشتان بين عالم كان يعيش تحت ظل الإسلام وحضارته حيث التعايش بين مختلف الأديان والأجناس والشرائع واللغات.. وبين عالم حضارة الغرب اليوم، الذي لا يعترف بالآخر ووجوده، ويضيق بالمختلف عنه في الجنس والعرق والدين واللون، ويدعو إما إلى إلغائه وتصفيته، وإما إلى احتوائه والسيطرة عليه، ولعل ما يحدث في غزة هذه الأيام من عدوان وحشي وحرب إبادة هو خير شاهد على بربرية حضارة الغرب ووحشيتها، وعدم قبولها بالتعددية.
* سعدون يخلف- القدس العربي
- المقالات المنقولة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.