نهاية التنظيم أم بداية الفكرة؟ قراءة في تحوّلات حزب العمال الكردستاني
في تحوّل وصفه مراقبون بأنه “الأهم في تاريخ الحركة الكردية المعاصرة”، أعلن حزب العمال الكردستاني، في ختام مؤتمره الثاني عشر، حلّ هيكله التنظيمي وإنهاء الكفاح المسلح، معلنًا بذلك نهاية مرحلة استمرت أكثر من 4 عقود من الصراع المسلح مع الدولة التركية.
هذا الإعلان، الذي جاء تتويجًا لرؤية القائد عبد الله أوجلان، أعاد طرح القضية الكردية بوصفها مفتاحًا لمستقبل الدولة التركية والمنطقة بأسرها، لا باعتبارها مجرد ملف أمني، بل مسألة ديمقراطية وعدالة تاريخية.
في هذا المقال التحليلي، نرصد التحولات العميقة التي تضمّنها بيان الحزب، ونضعها في سياقها السياسي والفكري والجيوستراتيجي، ونطرح سؤلًا جوهريًا: هل تنجح هذه الخطوة الجريئة في فتح بوابة السلام أم تتكسر المبادرة مجددًا على صخرة الإنكار والتجاهل؟
حين تموت البندقية لتولد الكلمة
ليست كل النهايات هزائم، ولا كل البدايات ولادات. أحيانًا، تموت البندقية لتولد الكلمة. في 12 أيار 2025، طوى حزب العمال الكردستاني صفحةً من أكثر صفحات الشرق الأوسط اشتعالًا، بإعلانه – في بيان مؤتمرٍ تاريخي – حلَّ هيكله التنظيمي وإنهاء الكفاح المسلح الذي شكّل على مدى أكثر من 4 عقود النبض العنيف لقضيةٍ طُمست طويلًا تحت رماد الإنكار والتذويب.
لم يكن هذا القرار اعترافًا بالعجز، بل كان إعلانًا عن نضج تجربةٍ بلغت مداها في مواجهة آلة الدولة، وانتقلت إلى طور جديد: من لغة البندقية إلى منطق السياسة، من الجبل إلى ساحة النضال المدني، من التنظيم إلى الفكرة.
وما بين سطور البيان، تتبدّى معالم تحوّل فلسفي واستراتيجي تتجاوز حدود التنظيم نفسه، لتعيد طرح السؤال الأعمق: هل آن أوان الحل العادل للقضية الكردية في تركيا؟
تتويج لا انسحاب
من اللافت أن البيان لم يعرض هذا التحوّل بوصفه انكسارًا تحت وطأة الضغط العسكري أو الأمني، بل قدّمه كذروة لانتصارٍ استراتيجي طويل النفس على سياسات الإنكار والإبادة التي شكّلت جوهر البنية التأسيسية للدولة التركية الحديثة منذ معاهدة لوزان ودستور 1924.
في نظر الحزب، لم يكن الهدف من النضال المسلح مجرد كسب مواقع أو فرض معادلات آنية، بل إعادة الاعتبار إلى وجودٍ أُريد له أن يُمحى من الجغرافيا والتاريخ. واليوم، يرى أنه أنجز مهمته التاريخية؛ إذ أخرج القضية الكردية من أسر المعالجة الأمنية، ووضعها – بجدارة النضال والتضحيات – على طاولة السياسة بوصفها مسألة وطنية ديمقراطية تفرض نفسها على الدولة والمجتمع معًا.
الغائب – الحاضر في لحظة التحول
مرةً أخرى، يتقدّم القائد عبد الله أوجلان إلى صدارة المشهد، لا بوصفه مجرد رمزٍ تاريخي أو مرجع فكري، بل كفاعل حيّ يُناط به توجيه المرحلة الجديدة ومرافقة انتقال الحركة من زمن الكفاح المسلح إلى زمن السياسة. المفارقة المؤلمة أن هذا الدور المحوري يُطلب من رجل مُغيَّب قسرًا في عزلة مطلقة منذ سنوات، محروم حتى من حقه الأساسي في التواصل مع العالم الخارجي، فيما يُنتظر منه أن يُشرف على عملية يُفترض أن تعيد صياغة العلاقة بين الكرد والدولة.
إنها لحظة تختبر فيها الدولة التركية، وربما المجتمع الدولي أيضًا، صدقيّة حديثهم عن السلام، حين يُفترض أن ينطلق من أكثر الأصوات حجبًا وقمعًا، وهذا ما يضع المجتمع الدولي، والمنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية، أمام مسؤولية أخلاقية وقانونية واضحة في المطالبة بكسر العزلة المفروضة عليه، لا بوصفه سجينًا سياسيًا فحسب، بل كعنصر جوهري في معادلة السلام أيضاً، وركيزة أساسية لأي حلٍ ديمقراطي شامل للقضية الكردية.
من التنظيم إلى المشروع
لا يعني حل حزب العمال الكردستاني، كما أوضح البيان، نهاية الفكرة أو توقف النضال، بل يشير إلى نقلة استراتيجية من الشكل التنظيمي المغلق المرتبط بالكفاح المسلح إلى مشروع وطني ديمقراطي مفتوح تتوزع فيه الأدوار والمسؤوليات على قوى المجتمع بذاته. إنه تحوّل من منطق الحزب – الطليعة إلى منطق المجتمع – القاعدة، حيث تصبح التنظيمات الشعبية والمدنية، لا البنى العسكرية، هي الفاعل الرئيس في إنتاج السياسة، وبناء الاقتصاد المحلي، والدفاع الذاتي، وترسيخ الديمقراطية القاعدية.
في هذا السياق، تتبلور ملامح ما يمكن تسميته “مرحلة ما بعد الحزب”، التي تقوم على تجاوز الهياكل الهرمية الصارمة لمصلحة نماذج أفقية تعددية، تؤمن بالاكتفاء الذاتي، وتضع النساء والشبيبة في قلب الفعل الاجتماعي والسياسي، انسجامًا مع الرؤية التحررية التي بلورها أوجلان في سجنه، والتي وجدت ترجمتها التطبيقية – بدرجات متفاوتة – في تجربة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، باعتبارها مختبرًا سياسيًا واجتماعيًا لفكر “الأمة الديمقراطية”.
تركيا أمام اختبار الإرادة السياسية
يضع هذا الإعلان التاريخي الدولة التركية أمام مفترق طرق حاسم لا لبس فيه؛ فإما أن تتلقّف المبادرة بوصفها فرصة نادرة لفتح باب الحل السياسي الشامل والعادل، بما يضمن إنهاء عقود من الحرب والتهميش والتمرد، وإما أن تواصل سياسات الإنكار والملاحقة والعسكرة، فتُحوّل الفرصة إلى مأزق جديد يُضاعف من التوتر والانقسام.
لم تعد القضية الكردية اليوم مجرد مسألة أمنية أو معضلة سياسية داخلية، بل أصبحت مؤشرًا لمدى قدرة الدولة التركية على التحول نحو دولة مواطنة، وديمقراطية، وتعددية. وكل تجاهل لهذه اللحظة الفارقة سيكون تجاهلًا مكلفًا، ليس للكرد وحدهم، بل لمستقبل تركيا ككل.
القضية الكردية بين الخرائط والضمير
لا يمكن قراءة التحوّل في استراتيجية حزب العمال الكردستاني بمعزل عن المشهد الإقليمي والدولي الذي يعاد تشكيله على إيقاع التحولات الكبرى في الشرق الأوسط، فالهياكل القديمة تتصدع: سوريا ما بعد الحرب تعيش على تخوم الفوضى وإعادة التشكيل، والعراق يعاني انقساماته البنيوية، وإيران ترزح تحت ضغوط الداخل والخارج.
وفي قلب هذه الجغرافيا المتحولة، يبرز الكرد كأحد أكثر الفاعلين ديناميكية، ليس فقط لكونهم القومية الرابعة في المنطقة بلا دولة، بل لكونهم أيضاً باتوا حاضرين بقوة في صلب المعادلات الأمنية والسياسية، سواء في قتالهم الحاسم ضد تنظيم داعش أو في بناء تجارب الحكم الذاتي التي مثلت محاولات أولية لصوغ مشروع ديمقراطي عابر للحدود القومية والدينية.
من هنا، يأتي توجّه البيان إلى الرأي العام العالمي والحركات الديمقراطية في العالم ليمنح القضية الكردية طابعها الإنساني – الكوني، ويحولها من شأن محلّي – تركي إلى ملف أخلاقي وسياسي مفتوح أمام الضمير العالمي، فالقضية لم تعد ما فُرض على الكرد من حرمان فحسب، بل ما تواطأت فيه أيضاً قوى دولية عبر دعمها للأنظمة القمعية أو سكوتها عن المؤامرات، وفي مقدمتها المؤامرة الدولية التي طالت القائد أوجلان عام 1999.
أسئلة السلام وشروط التحول
وبرغم ما يحمله البيان من نبرة أمل وتفاؤل، فإن الطريق نحو التحوّل الديمقراطي لا يزال مليئًا بالأشواك والأسئلة الحرجة، فهل تتجاوب الدولة التركية بإرادة سياسية حقيقية، فتُوقف ملاحقاتها الأمنية وعملياتها العسكرية؟ وهل تتخلّى القوى الإقليمية والدولية عن استثمارها في الورقة الكردية كأداة ضغط أو مساومة، وتفسح المجال أمام قيام حركة كردية موحّدة ذات مشروع مدني وسلمي؟
الأهم من ذلك: هل ينجح الكرد أنفسهم، بتعدّد مرجعياتهم الحزبية والجغرافية، في إدارة خلافاتهم الداخلية بروح المسؤولية التاريخية وتجاوز منطق التنافس الفصائلي والمناطقي؟
بين إعلان السلاح ونشوء السلام مسافةٌ لا تُقطع بالشعارات أو الأمنيات، بل بحاجة إلى أدوات جديدة، وعقلية تنظيمية مختلفة، قادرة على نقل الزخم الثوري من ميدان المواجهة المسلحة إلى فضاء النضال الديمقراطي، القائم على الحوار، وبناء المؤسسات، والرؤية السياسية والاجتماعية الطويلة النفس.
حين يصبح السلام معركة جديدة
لقد أنهى حزب العمال الكردستاني حرباً طويلة، لكن السلام لم يبدأ بعد. ما جرى في المؤتمر الثاني عشر ليس بياناً لطي صفحة فقط، بل محاولة شجاعة لإعادة كتابة التاريخ بلغة أخرى، لا تطلب الثأر، بل تطالب بالاعتراف.
وفي عالم تتآكل فيه الشرعيات القديمة، ويُعاد فيه رسم الخرائط بالنار والدم، يقف الكرد أمام لحظة مفصلية: أن يُنتزع الاعتراف بنضالهم عبر مشروع ديمقراطي جامع، لا أن يُستبدل الإنكار الرسمي بتهشيم داخلي أو تسويات ناقصة.
ولأن المسارات العظيمة تبدأ من الخيارات الشاقة، فإن ما طرحه المؤتمر من حلول وتحولات لن يكتمل إلا إذا توفرت إرادة حقيقية لدى الدولة التركية في كسر حلقة الحرب، كما لن يُكتب له النجاح إلا إذا حافظ الكرد أنفسهم على زخم التغيير، والتزموا بوحدة الهدف، وبنضال مدني طويل النفس، لا تقل تضحياته عن سني الكفاح المسلح؛ فالسلام ليس مجرد نهاية للحرب، بل بداية لمعركة من نوع آخر: معركة من أجل العدالة، والاعتراف، والكرامة المستحقة.
*مقالات||
التعليقات مغلقة.