الشعب الذي حرف أنظار العالم تجاهه
إن تفهم الشعب اليمني فالمسألة بسيطة ومعقدة في وقت واحد، هي بسيطة لمن لم يتلوثوا بالثقافية المادية التي اسستها وسوقتها الحضارة الغربية القائمة على حصر فهم القيم الإنسانية والانتصار لها في مستوى ما يمكن أن تعكسه من فائدة.
وهي معقدة على الركب الأمريكي لأنه ركب “ديماغوجي” يعتمد النفاق والكذب والتدليس على الآخرين، ويرى في القيم والمبادئ والأخلاق نوعا من التخلف والإنشداد إلى الماضي وفي أبسط الأحوال، إذا غمّت عليه الرؤية، يقيس هذه المفاهيم وفق الفلسفة الأمريكية.
اليوم من الطبيعي أن يرى الكثير في الشعب اليمني حالة استثنائية وعُملة باتت نادرة في زمن ارتفعت فيه الشعارات ثم تراجعت، وفي زمن تمَحْوَر فيه العالم حول أمريكا، وتَقبّل التبعية من أجل الوصول إلى مزيد من التلاشي في النموذج الغربي الأمريكي.
واليوم وهم يرون أمريكا ذاتها من، تدوس على تلك الشعارات والعناوين اللامعة التي قدمت نفسها من خلالها، لا تنصدم قناعاتهم من هذا التمرد، وانما بكل استلاب يذهبون سريعا إلى اعادة صياغة هذه القناعات وفق الرؤية الأمريكية الجديدة، لذلك ورغم أنهم من المؤمنين بالحق الفلسطيني باتوا متماهين مع الطموح والمنتج الأمريكي، متبنين فلسفته التي لا ترى حقا -من أصله- للفلسطينيين في هذه الأرض. بل إنهم لا يجرؤون ولو على الاجتهاد والتعاطي مع مجرد فرضية تعتبر الفلسطينيين حتى أقلية لأن ذلك سيترتب عليه حقوقا انسانية مشروعة لابد أن يحصلوا عليها كباقي البشر، وطالما وأمريكا لا تعترف بشيء من هذا، إذاً تبقى هذه مساحة محظورة ومنطقه محرّم الحديث فيها.
يتقمّصون شخصية الغربي، ويؤمِّنون حياة صحية رغيدة لقط أو كلب أو حتى سلحفاة، فهذه مسألة حضارية، وإذا رأوا الرجل الأصفر ينتهك ادمية شخص لا ينتمي إلى نفس الفصيلة حمّلوا الضحية مسؤولية ما حدث له “كان عليه إلا يكون في طريق ذاك العربيد”.
إنهم هم أنفسهم الذين كانوا يرون في “جيفارا” نموذج، وفي التحركات التحررية، طوق استعادة للقيم المهدورة، باتوا اليوم يضيقون ذرعا منها، فقد أصبحت برأيهم لا تُطعِم من يَحمْلها او يؤمن بها عيشا: “انها لا توكل عيش”.
لذلك هم اليوم يرون في الشعب اليمني الذي يؤسس معادلة الاستفادة بسقوفها المفتوحة من المعطيات العصرية الحديثة دون المساس بالثوابت، بأنه شعب لم يغادر الماضي بعد، والوقوف طويلا عند مفاهيم وقيم الحق والخير والأصالة، أمر لم يعد بنظرهم يستقيم مع روح العصر، وبينما كانت روح هذه المفردات تمثل معايير تصنيف النفوس صارت قيمة الإنسان بثقافتهم الحديثة تقاس بمقدار ما يمتلك من المال، ومن الأفكار التي لا تقف أمامها أي محاذير أو حدود. لذلك تبدو اصالة الشعب اليمني استثناء لأنه أثبت صوابية منهجيته، وعكست مظاهر سلوكه مع المتغيرات المحيطة ثقته بما يتخذه من مواقف دون التفات للمثبطين أو المسحورين بـ”المكياج” الأمريكي.
الشعب اليمني استثناء في زمن التلوث بكل أشكاله وأنواعه، فحين تتعرض بلاده لقصف الرافضين لبقائه على هذا النقاء والاستثنائية، لا يفر على غير هدى، وإنما يسرع إلى مواقع الاستهداف ويمد يد النجدة، وإذا اقترب القصف منه لا يغيّر حتى من وضعيته أو ينصرف عما كان عليه كتعبير عن الخوف وإنما يمارس حياته بشكل طبيعي كأن شيئا لم يكن. وهي مسألة لا تميز جنس أو صغير وكبير، على عكس ما نراه لدى ملايين المستوطنين في الأراضي المحتلة كيف يهرعون عند سماع دوي صفارات الانذار -على اي حال كانوا فيها- الى الملاجئ مع انهم لا يعلمون اين وماهو الخطر بالضبط.
الشعب اليمني أيضا استثناء لأنه غيّر مسار التوقعات إلى عرض الحائط. اذ تصوروا طويلا إن آلة القتل والتدمير قادرة على كسر كبرياءه وانفته أمام الباطل وإجباره على الانخراط في موجتهم، هكذا تصوروا فالحياة هي إغلى ما يملكه الإنسان، إلا أن العدوان امتد وتفنن المنظرون في تعيبن أشكال الاستهداف وأسباب والمعاناة حتى صار الوضع في الادبيات السياسية والحقوقية أسوأ كارثة إنسانية، فإلى ماذا خلص أعداء القيم وقتلة المشاعر الإنسانية؟!
ظل الموقف هو الموقف، كانوا كلما زادوا من القتل وتضييق المعيشة، لم ترى في قاموس الشعب اليمني وهو في هذا الظرف القاتل، مُفردة تشير إلى التراجع والخنوع أو الانكفاء على الذات والهرولة للبحث في قاموس الركب الأمريكي عن مفردات تبرر له الاستسلام والتعاطي بسلبية مع من ينتهك سيادة البلد ويقتل ابناءه ويحاصرهم، إنما رأيت اليمنيين يخرجون بالملايين معلنين ثباتهم أكثر على إيمانهم وقيمهم ومبادئهم.
ولان الثبات على الموقف بثقة وإعزاز مسالة مرتبطة بالكينونة الإنسانية والثوابت الدينية والأخلاقية التي لا يزال اليمني متمسكا بها، وليست وليدة عوامل خارجية، لحظية أو مستدامة، فإنها تبقى أُسُسه وقواعده التي يستند عليها لتكوين مواقفه تجاه ما يحيط به عموما وليس اطاره المكاني فقط، لذلك فانه لم ينزو بقناعته في حدود جغرافيته بل هبّ بكل عنفوان وحماسة مدافعا عن اخوته المستضعفين في فلسطين، حيث مشهد الخذلان يعكس مستوى ما وصلت اليه الانسانية من انهيار قيمي.
*وديع العبسي
التعليقات مغلقة.