سوريا بين مطرقة الصهيونية وسندان الطائفية
شكّل سقوط نظام الأسد في سوريا حدثاً مفصلياً في سياق التطوّرات المتلاحقة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ الهجوم الذي شنّته حماس في 7/10/2023.
ولأنه نظام مستبدّ، شأنه في ذلك شأن معظم النظم الحاكمة في المنطقة، فقد كان من الطبيعي أن ترحّب باختفائه شرائح واسعة من النخب السياسية والفكرية العربية.
غير أنه يتعيّن الانتباه إلى حقيقة أساسية مفادها أنّ النظم الحاكمة في دول العالم عموماً لا تستقرّ على حال، وإنما تتغيّر وتتبدّل وفقاً لديناميات مجتمعية خاصة دائمة التفاعل مع عوامل خارجية محيطة، تتأثّر بها وتؤثّر فيها. أما الشعوب، خصوصاً تلك التي تضرب بجذورها عميقاً في التربة التي أنبتتها، فتتمتّع بصلابة تجعلها أكثر قدرة على مجابهة ما قد تتعرض له من مخاطر وتحدّيات، داخلية كانت أم خارجية.
ولأنّ لسقوط نظام الأسد تداعيات جيوسياسية تتجاوز طبيعته الاستبدادية، فليس من المستبعد أن يكون لهذا السقوط تأثيرات بعيدة المدى على قدرة الشعب السوري على مواجهة تحدّيات وجودية يتوقّع أن يتعرّض لها في المستقبل المنظور، ومن ثم يتعيّن على النخب السياسية والفكرية، ليس في سوريا وحدها وإنما في العالم العربي ككلّ، أن تولي عناية خاصة بالتداعيات الجيوسياسية لسقوط نظام الأسد في سوريا الأسد، بصرف النظر عن موقف هذه النخب من الطبيعة الاستبدادية لنظام الأسد، وأن تبحث في تأثيراتها المحتملة ليس على الداخل السوري فحسب وإنما أيضاً على موازين القوى في المنطقة على مصير الشعوب العربية ككلّ في المستقبل المنظور.
للتعرّف إلى مجمل هذه التداعيات، يحسن بنا أن نأخذ حرب أكتوبر 73 كنقطة انطلاق، خصوصاً وأنّ هذه الحرب أظهرت أفضل ما في العالم العربي من خصائص وقدرة على التضامن وتجاوز الخلافات.
فلم يكن لهذه الحرب أن تحقّق كلّ ما أنجزته من مكتسبات لولا التنسيق الذي جرى قبلها بين الجيشين المصري والسوري، ولولا الدعم المالي والتسليحي الذي قدّمته معظم الدول العربية لدول المواجهة، ولولا قرار الدول العربية المنتجة للنفط باستخدامه كسلاح سياسي في المعركة.
ورغم ذلك كلّه لم تكد الحرب تتوقّف حتى بدأت الخلافات السياسية تظهر وتتصاعد بين الدول العربية، ما أفضى إلى بروز معسكرين أصبح من الصعب جسر الهوة بينهما، أحدهما قاده الرئيس أنور السادات الذي أصرّ على أن تكون حرب أكتوبر هي آخر الحروب، ومن ثم اندفع على طريق البحث عن تسوية سلمية بأيّ ثمن، ما أفضى إلى توقيع مصر عام 1979 على معاهدة سلام منفردة مع “إسرائيل”، أما الآخر فقاده الرئيس حافظ الأسد الذي أصرّ على رفض التسويات المنفردة مهما كان الثمن، ومن ثم سلك طريق التحالف مع ما أصبح يُعرف لاحقاً بـ “محور المقاومة” الذي قادته إيران عقب اندلاع الثورة الإسلامية فيها وتأكّد خروج مصر من معادلة الصراع العسكري مع “إسرائيل”.
صحيح أنّ سوريا الأسد قرّرت في مرحلة لاحقة، خصوصاً بعد “حرب تحرير الكويت”، استكشاف أفق التسوية السلمية، ودخلت مع “إسرائيل” بالفعل في مفاوضات غير مباشرة توسّطت فيها الولايات المتحدة، غير أنّ رفض “إسرائيل” الانسحاب من كامل الأراضي السورية التي احتلتها عام 1967 كان السبب الرئيسي في إجهاض هذه المحاولة.
وصحيح أيضاً أنّ سوريا الأسد لم تدخل في أيّ مواجهة عسكرية مباشرة مع “إسرائيل” منذ حرب أكتوبر 1973، غير أنّ دواعي الانصاف تفرض على كلّ باحث الاعتراف بأنّ صلابة الموقف التفاوضي السوري هي التي حالت دون تمكين “إسرائيل” من فرض تسوية بشروطها وأدت في الوقت نفسه إلى إجهاض اتفاقية 17 أيار التي حاولت “إسرائيل” فرضها على لبنان عام 1983.
لذا يمكن القول، في سياق كهذا، إنّ سقوط نظام الأسد في سوريا أدّى إلى تغيير كلّي في مفردات معادلة جيوسياسية كانت قد استقرّت في المنطقة منذ حرب أكتوبر 1973، مفادها استحالة وقوع حرب نظامية بين “إسرائيل” والدول العربية من دون مشاركة مصرية، واستحالة تحقيق السلم أو التسوية السياسية الشاملة من دون مشاركة سورية. أما الآن، وبعد سقوط نظام الأسد، فيعتقد بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، أنّ الطريق بات مفتوحاً أمام “إسرائيل” ليس لفرض تسوية بشروطها على كلّ دول المنطقة فحسب وإنما لفرض هيمنتها التامّة على العالم العربي.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ شروط “إسرائيل” المعلنة للتوصّل إلى تسوية سياسة شاملة اكتنفها غموض دائم، وتغيّرت بمرور الوقت، لكنها لم تصل أبداً إلى ذروة التطرّف إلا بعد سقوط نظام الأسد. صحيح أنّ “إسرائيل” ظلت طوال الوقت ترفض الانسحاب من كلّ الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وترفض في الوقت نفسه قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وهما الشرطان الرئيسيان اللذان يشكّلان الحد الأدنى المطلوب عربياً للتوصّل إلى تسوية سلمية، وفقاً للمبادرة التي أقرّتها قمة بيروت عام 2002، لكنّ “إسرائيل” بدت مستعدّة في الوقت نفسه، حتى بعد قيامها بإبرام معاهدة سلام منفردة مع مصر في نهاية سبعينيات القرن الماضي، للتوصّل إلى تسوية شاملة إذا وافقت الدول العربية على:
1- حكم ذاتي فلسطيني في الضفة الغربية وغزة، يضمن احتفاظ “إسرائيل” بالسيادة المنفردة على الأرض، مقابل احتفاظ سلطة الحكم الذاتي بإدارة شؤون الفلسطينيين، وعودة محدودة جداً لبعض اللاجئين الفلسطينيين إلى مناطق الحكم الذاتي.
2- استعادة الدول العربية لسيادتها على معظم الأراضي غير الفلسطينية التي احتلتها عام 1967، باستثناء مساحات محدودة تعتبرها “إسرائيل” ضرورية لأمنها الوطني، مقابل تطبيع كامل للعلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية مع “إسرائيل”.
أما الآن فيمكن القول إنّ هذه الشروط تغيّرت تماماً تحت تأثير عوامل ثلاثة:
العامل الأول: وصول اليمين الديني المتطرّف إلى السلطة في “إسرائيل” وتحكّمه في الائتلاف الذي تشكّل في كانون الأول/ديسمبر 2022، والذي يعدّ أكثر الحكومات تطرّفاً في تاريخ “إسرائيل”.
فهذا الائتلاف لم يخفِ أبداً، ومنذ اللحظة الأولى لوصوله إلى السلطة، أهدافه الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، وذلك من خلال ضمّ أجزاء واسعة من الضفة الغربية، ومحاولة السيطرة على المسجد الأقصى تمهيداً لهدمه وإقامة الهيكل على أنقاضه.
العامل الثاني: الهجوم الذي قامت به حماس في 7/10/2023 تحت شعار “طوفان الأقصى”. فقد استغلّ الائتلاف الحاكم هذا الهجوم ليس للإسراع بوضع برنامجه السياسي موضع التنفيذ الكامل فحسب، وإنما أيضاً لإعادة احتلال قطاع غزة والدفع في اتجاه العمل على تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر ومن الضفة الغربية إلى الأردن.
العامل الثالث: سقوط نظام الأسد في سوريا. فمن الواضح تماماً أنّ الائتلاف الحاكم في “إسرائيل” وجد في هذا السقوط فرصة لتحقيق الانتصار النهائي للمشروع الصهيوني، وذلك عبر التحرّك على محورين متوازيين، أوّلهما: يستهدف تمهيد الطريق أمام إقامة “دولة يهودية كبرى” تمتد من النيل إلى الفرات، وثانيهما: يستهدف تفتيت العالم العربي إلى كيانات طائفية يسهل السيطرة عليها، من خلال التحكّم في ضبط تفاعلاتها، وذلك باستغلال التنوّع الإثني والطائفي للمجتمع السوري، من ناحية، وضعف مؤسسات الدولة بسبب الحرب المدمّرة التي شهدتها الساحة السورية على مدى حقبة زمنية كاملة، من ناحية أخرى.
لقد لاحظ جميع المراقبين لما جرى مؤخّراً على هذه الساحة أنه ما إن استقلّ بشار الأسد طائرة الهروب من سوريا حتى سارعت “إسرائيل” بشنّ غارات مكثّفة على جميع المواقع التي توجد فيها قوات تابعة للجيش، رغم أنها لم تكن تشكّل أيّ تهديد بالنسبة لـ “إسرائيل” التي سعت في ذلك الوقت لتحقيق هدفين رئيسيين:
الأول: استغلال حالة الفوضى القائمة للتخلّص من كلّ القيود والعراقيل التي تحول دون تمدّدها داخل الأراضي السورية. لذا، لم تكتفِ “إسرائيل” بالقضاء على كلّ ما تبقّى من قدرات الجيش السوري، لكنها أعلنت أيضاً إلغاء اتفاقية فضّ الاشتباك الموقّعة عام 1974، وتمدّدت داخل المنطقة منزوعة السلاح، ثم احتلت أراضي سورية جديدة بلغت مساحتها ما يقرب من 500 كيلومتر مربّع.
والثاني: عدم السماح لأيّ قوة، أياً كان توجّهها السياسي أو الأيديولوجي، بإعادة بناء القدرات الذاتية للدولة السورية المطلوب إضعاف مؤسساتها إلى أقصى حدّ ممكن، كي تعجز عن حسم الصراعات المتوقّع اندلاعها بين المكوّنات المختلفة للمجتمع السوري عقب سقوط نظامها الحاكم. كما لاحظ هؤلاء المراقبون أنّ “إسرائيل” تتعمّد تغذية الصراعات المجتمعية في سوريا، مستغلة علاقاتها التاريخية بكلّ من الكرد والطائفة الدرزية. لذا لم يكن مفاجئاً لأحد تدخّل “إسرائيل” عسكرياً كي تنصّب من نفسها حامياً للطائفة الدرزية.
في ضوء ما تقدّم، يمكن القول إنّ سوريا ليست مجرّد دولة سقط نظامها المستبد، مثلما سقطت من قبل أنظمة مستبدة كثيرة في المنطقة إبان ثورات “الربيع العربي”. ولأنّ سوريا تحتلّ موقعاً فريداً على الصعيد الجيوسياسي، لا تكمن المشكلة الحقيقة في سقوط نظامها الحاكم، وهو ما حدث بالفعل، وإنما في احتمال سقوط الدولة نفسها وتفتّت المجتمع، وهو ما ينبغي العمل على تجنّبه مهما كان الثمن. وتلك مسؤولية لا تقع على عاتق حكومة الشرع الانتقالية وحدها، رغم أن النصيب الأكبر من هذه المسؤولية يقع على عاتق تلك الحكومة، وإنما تقع المسؤولية على عاتق النظام العربي ككلّ، إن كان قد تبقّى منه شيء.
سقوط الدولة السورية، لا قدّر الله، يفتح الباب واسعاً ليس أمام طموحات التوسّع الإقليمي لمشروع صهيوني يستهدف إقامة “دولة يهودية كبرى” تمتد من النيل إلى الفرات فحسب، وإنما أيضاً أمام طموحاته الرامية لتفتيت العالم العربي وتحويله إلى كيانات طائفية وعرقية متناحرة. وهنا مكمن الخطورة التي تفسّر إصرار نتنياهو على مواصلة الحرب على كلّ الجبهات إلى أن يتمكّن من تحقيق “النصر المطلق”. فمتى تفيق الأنظمة العربية الحاكمة ومتى تفيق شعوبها المغلوبة على أمرها؟
التعليقات مغلقة.