معرفة الله ـ نعم الله ـ الدرس الخامس

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

في الدرس السابق عرفنا من جملة آيات: أن الله سبحانه وتعالى يطلب من عباده، أو يأمر عباده أن يذكروا نعمه، يرشدهم إلى أن يتذكروا نعمه، فهو قد عدد كثيراً من نعمه عليهم، وهو أيضاً قد أرشدهم إلى قيمة كثير منها، في أثرها في حياتهم، وبين حاجتهم الماسة إليها.

وفي نفس الوقت هو سبحانه وتعالى ذكَّر بأسلوب آخر أولئك الذين يرون أن كل ما في أيديهم، ينظرون إليه كنظرة قارون عندما قال:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}(القصص: من الآية78) عندما قال له بعض قومه:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ}(القصص: من الآية77) كان جوابه: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أنا ذكي وشاطر، وعندي خبرة في البيع والشراء، وعندي خبرة في الزراعة، وعندي خبرة في كذا، فهذا هو نتاج شطارتي، ونتاج حنكتي وذكائي. هكذا ينظر الناس ـ أو ربما أكثر الناس ـ ينظرون إلى ما بين أيديهم.

ففي [سورة الواقعة] بأسلوب آخر يقول لأولئك الذين ينظرون هذه النظرة إلى ما بين أيديهم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} (الواقعة:63) هذه الأموال التي تحرثونها، هذه الأموال التي تجنون منها مختلف الثمار، فتحصلون من ورائها على أموال كثيرة، هذه الأرض التي تحرثونها، وهذا الزرع الذي ينبت بعد حرثكم {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (الواقعة:64)  ما هذا سؤال؟ نقول لك: تذكر النعم العظيمة عليك، تذكر، إذا أنت لم تتذكر فسنذكرك نحن، فيأتي على هذا النحو من الاستفهام {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} كيف سيكون جواب كل واحد منا؟ الله هو الزارع.. إذاً هذه واحدة.

الزراعة تشمل مختلف الأصناف التي بين أيدي الناس سواء زراعة الزرع، زراعة القات، زراعة البن، زراعة الفواكه، زراعة الحبوب، تسمى كلها زراعة، بعد أن تعترف أنت بأن الله هو الزارع، الله هو الذي خلق هذه الأرض التي تحرثها، هو الذي خلق لك هذه الآلة التي تحرث عليها، أو هذا الحيوان الذي تحرث عليه، هو الذي خلق لك تلك الأيدي التي تقبض بها المحراث، أو تقبض بها عجلة القيادة في الحرَّاثة.

والأعين التي تبصر بها.. أليست من الله؟.. هل يستطيع الأعمى أن يحرث؟ لا يستطيع، لو تعطيه أرضاً واسعة جداً وتقول له: هذه لك وتحرثها أنت ما يستطيع يحرثها، أرضية كبيرة تعطيه، أرضية صالحة للزراعة وتقول له: لكن نريد أنت الذي تكون تحرثها أنت بيدك، حتى لو كان صحيح الجسم لكن فاقد البصر هل يستطيع؟.

ثم هذه التربة التي تحرث فيها، هل هي سواء هي والرماد، أو الدقيق أو أي شيء آخر؟ من الذي أودع فيها هذه الخاصية، فجعلها قابلة للإنبات؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى.

لاحظ مساحة الأسئلة كثيرة داخل هذه الآية:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} داخلها أسئلة كثيرة جداً، بدءاً من الأرض وانتهاء بالثمرة التي تجنيها، داخلها أسئلة كثيرة.

فإذا كنت معترفاً بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي زرع، هو الذي أنبت {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}(الأنعام: من الآية95)  أنت فقط تلقي الحَبَّ في باطن التربة، من الذي يفلق الحب والنوى؟ هو الله {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} إذاً فهو الزارع، أليس كذلك؟.

فإذا كنت معترفاً بأن هذه الأرض منه والقوة التي أنا عليها أتمكن بها من الزراعة، من الحراثة هي منه، وهذا الزرع هو الذي فلق حبّه ونواه، هو الذي أنبت هذه الأشجار التي نجني منها الأموال الكثيرة.

فما هو الموقف الصحيح بالنسبة لي منه تعالى أمام ما أعطاني، ما هو الموقف الصحيح؟ هل أرضى لنفسي أن أكون ممن قال الله عنهم:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(إبراهيم: من الآية34)؟.

أخرج من طرف السوق بعد ما بعت من [قاتي]، أو [بنِّي]، أو أي محصول زراعي بكمية كبيرة من المال، أخرج من طرف [الجِربة] وأنا محمَّل بما جنيته من تلك الأشجار التي زرعها الله سبحانه وتعالى، وأنا مدبر عن الله، ظلوم كفار، هل هذه من الناحية الإنسانية تليق بالإنسان؟ هل يليق بك أن تولي بوجهك عن الله, وتصم آذانك عن الله، وتعرض عن الله، فتكون ظلوماً كفاراًَ، هل ترضى؟ هل هذا هو ما يمليه عليك ضميرك؟.

أليس هذا من الجفاء؟ أليس هذا من السوء؟ أليس هذا من الحماقة؟ أليس هذا من الكفر؟ أم أن الذي ينبغي لك بعد أن تكون قد أجبت الإجابة الصحيحة على قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} فقلت: بل أنت يا الله أنت الزارع، فانطلقت أنت لتقدِّر نعمته العظيمة عليك، وتعترف بإحسانه الكبير إليك، فيخشع قلبك، ويمتلأ قلبك حباً له سبحانه وتعالى، وتشعر كم أنت مدين له بإحسانه العظيم إليك، فتكون نفسك منكسرة أمامه سبحانه وتعالى، منشدة نحوه إنشداداً عاطفياً، وانشداد من يشعر بعظم وقع الإحسان عليه؟.

أيُّ الموقفين هو الأليق بالإنسان من هذين؟ أليس هو الموقف الثاني؟ لأننا إذا وقفنا الموقف الأول، موقف الظلوم الكفار، بعد أن كنا قد شهدنا على أنفسنا وأقرّيّنا في إجابتنا على هذا التساؤل الإلهي، فقلنا: بل أنت يا الله، أنت الزارع، أليست هذه جريمة كبيرة؟ أعترف وأشهد وأقر بأنك أنت الزارع، ثم أتعامل معك معاملة الظلوم الكفار؟. أليست هذه جريمة كبيرة؟ جريمة كبيرة فعلاً.

{أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ}(الواقعة: من الآية65) حتى تتأكدوا بأنه نحن الزارعون،{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ حُطَاماً} ضربة تأتي له أو عاصف أو تنعدم الأمطار، فتسقط الأوراق، وتذبل الغصون، وتجف السيقان فيتحول إلى حطام.

{فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}(الواقعة: من الآية65) تتعجبون من سوء حاله، كيف أصبحت مزرعتي بعد أن كانت خضراء ومنظرها جميلاً، أصبحت هكذا منظراً موحشاً، أصبحت حطاماً!.

هل كل واحد منا يعترف بأن الله يستطيع فعل هذا؟ إذاً هذا إقرار آخر، إذاً فهو الذي رعى هذه الشجرة حتى استطعت أن تحصل منها على هذا المحصول الكبير، هو الذي رعى هذه الأشجار حتى جنيت أنت ثمارها. أم تظن أنه الغاز والبودرة وهذه الكيماويات هي نفسها التي أعطته الرعاية؟. هي أيضاً مما خلقه الله سبحانه وتعالى، وفي نفس الوقت تذكَّر أنه {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً}.

ولاحظ.. عندما يكون الوقت مجدباً لا يوجد أمطار، والماء قليل حتى وصل الناس إلى درجة أن كل واحد احتفظ بما لديه من ماء لبيته وحاجته، والقات أو البنّ أو أي أنواع الأشجار التي لها أهمية كبيرة في حياة الناس قد أصبحت ظامئة، أصبحت جافة، هل هو وقت البودرة والغاز؟ هل سينفع؟ لا تعد تنفع. إذاً {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} تذهب تغزّ بالمكينة وتضخ بالكيماويات، فلا يطلِّع شيئاً، أعواد جافة.

لكن من أين ترسخ في أنفسنا ـ ونحن نتقلب في أموالنا ـ أن هذه هي لنا ونحن من نقوم بالعمل فيها، نحن من غرسنا أشجارها، ونحن من نجني ثمارها، ونحن.. ونحن.. إلى آخره.. مع نسياننا لله سبحانه وتعالى. من أين ترسخ؟.لأننا لم نروض أنفسنا على أن نتذكر دائماَ نعم الله العظيمة علينا، وأن نتذكر قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}(النحل: من الآية53) {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}(النحل: من الآية18) ترسخت هذه الحالة أو المفاهيم المغلوطة السيئة فنتج عنه حالات سيئة لدينا في أنفسنا جعلت كل واحد منا يتحول إلى أن يصبح ظلوماً كفاراً، فما الذي يبعدك عن أن تكون من الظالمين الكافرين بنعم الله سبحانه وتعالى؟. هو أن تتذكر.

إذا كنت أنت لا تتذكر تلقائياً فأجب على هذه الأسئلة التي ذكرك الله فيها؟.{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} والذي أنت بالطبع لا تستطيع أن تقول: نحن. من الذي يستطيع أن يقول: نحن؟ لا يستطيع أحد، ما من أحد ـ ربما ـ يستطيع أن يقول نحن إلا وهو يتوقع عقوبة من الله لأشجاره، لزراعته، لو يقول: نحن. فكل واحد مقر في نفسه أن الله هو الزارع.

إذاً فتذكر سواء بالأسلوب الأول، أسلوب تعداد النعم، أو عن طريق الإجابة على هذه الأسئلة التي وجهت إليك وإلى أمثالك من بني آدم.

{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}(الواقعة:65) ثم في الأخير ماذا تملك أن تعمل؟ لا شيء. تصبح كصاحب الجنة الذي ذكر الله قصته في [سورة الكهف]: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}(الكهف: من الآية42) هل تملك في الأخير شيئاً؟ بعد أن يجعلها الله حطاماً تعطش حتى تجف سيقانها وتتحطم، ماذا يمكن أن تعمل؟ ربما آخر فكرة هو أنك تقتلع القات وتجعل بناتك ونساءك يجمعونه ليكون في الأخير [كوماً من الحطب] أليس كذلك؟.{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} (الواقعة:66) غرام، خسارة لا تملك شيئاً، لا تملك أن تضع بدائل لنفسك.

الناس الآن مثلاً في هذه البلدان في الأرياف، في معظم أرياف اليمن يعيشون على القات وبشكل كبير، لو نسألهم: ما هو البديل الذي أنتم تتصورون بأنه يمكن أن يكون بديلاً فيما لو أصبحت هذه الشجرة لا قيمة لإنتاجها؟.مثلا تقفل السعودية فلا يستقبل القات، فيبقى متراكما، فتضطرون إلى قلع هذه الأشجار عندما تصبح لا قيمة لمحصولها، ما هو البديل في أذهانكم؟. هل هناك بديل؟.

نحن نقول في بعض الأحيان أن الناس يحاولون أن يفكروا في بديل إذا أمكن، يجربوا في هذه المناطق إذا كان بالإمكان زراعة بعض أنواع الأشجار الأخرى التي يمكن أن تكون بديلاً عن القات، ربما مع تغير الظروف والمناخ من عام إلى عام قد يتحول المناخ في هذه المناطق إلى مناخ بارد جداً قد لا يصلح للقات. ربما السعودية يتغير وضعها الاقتصادي فتصبح هذه الشجرة لا قيمة لها؛ لأن المعلوم هو أن ما جعل للقات قيمة كبيرة هو أنه يمشي إلى السعودية، أليس كذلك؟.

التخازين في البلاد قليل، أليس معظم الناس يخزنون مجانا؟. يحاولون أن يفكروا أن يبحثوا عن أنواع أخرى. وليس من منطلق أنهم فيما إذا ضرب الله هذه الشجرة، نحن لسنا بحاجة إليها، سنفكر في نوع آخر وعندنا بديل آخر! لا.

أعتقد بأنها من جهة ـ والله أعلم ـ هذه الشجرة قد تكون نعمة كبيرة للناس في هذه الظروف فقط، في هذه الظروف الخاصة، في حالة قلة الأمطار، في حالة عدم تمكن الناس من زراعة أشياء كثيرة، حيث لا دعم من جانب الدولة للمزارعين.

هذه الشجرة التي تعيش في مختلف أنواع التربة، وتتحمل العطش بنسبة كبيرة، وتأتي في السنة بأكثر من محصول، تعتبر نعمة كبيرة على الناس، والناس يفهمون هذا أنها نعمة كبيرة، حتى كثير يقول: لو لا نعمة الله علينا بهذه الشجرة لكانت وضعية الناس سيئة.

التعداد السكاني متزايد كل سنة، أصبحت الأسر ما بين عشرين شخص إلى خمسة عشر شخصاً، ما بين ثلاثين إلى عشرة إلى اثنا عشر. فيأتي الرزق بواسطة هذه الشجرة.

إذاً أشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة، حتى وإن كان في الواقع أن وضعيتنا تفرض علينا أن نهتم بزراعة الأشياء التي هي ضرورية بالنسبة لنا كالحبوب، والبقوليات الأخرى، ولكن هذا يحتاج إلى دعم من الدولة، وأيضاً يحتاج إلى دعم إلهي.

نحن قد فسدنا، نحن فسدنا فلم تعد البركات بالشكل الذي كنا نسمع عن أجيال سابقة، الأمطار قلَّت، أليس كذلك؟ الأنهار أيضاً قلت وانتهى بعضها، وتلك المناطق التي كان يعتمد الناس فيها على الآبار الارتوازية أيضاً قلت المياه فيها بشكل كبير.

{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}(الروم: من الآية41) فلم ير الناس أنفسهم متمكنين من زراعة الحبوب، ومن زراعة البقوليات الأخرى حتى يوفروا أو يؤمنّوا غذاءهم لأنفسهم, يؤمنّوا لأنفسهم الغذاء. السماء لم تعد تعطي بركاتها، الأرض لم تعد تعطي بركاتها، فسدنا كلنا، كبيراً وصغيراً، كما قال الإمام علي (عليه السلام) ((إذا فسد السلطان فسد الزمان)).

أو لسنا نسمع من الدولة نفسها أنهم يشكون من الفساد المالي، والفساد الإداري، والفساد في القضاء، وفي الجانب الأمني وفي مختلف المجالات، في الجانب التعليمي، في الجانب الصحي، في مجالات كثيرة، ألسنا نسمع وهم يشكون؟. ألستم تسمعون برنامج يقدم [من هو المسئول] أليسوا يعالجون فيه أو يتحدث من المسؤول عن أخطاء في هذا المجال، أو هذا المجال، أو هذا المجال, فساد على مستوى الدولة والشعب؟.

لكن ماذا؟ يبدو وكأن الله سبحانه وتعالى منحنا جرعة إسعافية مؤقتة لسكان الأرياف.. القات، من شمال اليمن إلى معظم المناطق الغربية هذه، معظم المناطق الغربية في محافظة صعدة ومحافظة حجة، وإب.. وهكذا، يعتمد الناس فيها على القات، في محافظة صنعاء وعمران والمحويت والجوف يعتمدون فيها على القات.

مع أننا نصيح من زراعة القات أنه ليس هو ما يجب أن نعتمد عليه باستمرار، هذه شجرة إذا ظل الشعب معتمداً عليها باستمرار فبالتأكيد لا يستطيع أن يكون له موقف من أعداء الإسلام، هذه الشجرة لا تستطيع أن تمضغها إلا بعد أن يكون بطنك ممتلئاً وأنت شابع، أما إذا كنت جائعاً فهل تستطيع أن تمضغ القات؟.لا.

إذاً فبالنسبة للقات، بالنسبة لشجرة القات، مناسب أن تكون لنا نظرة صحيحة بالنسبة لهذه الشجرة، هي في الواقع نعمة، لكن أعتقد أنها أشبه شيء بنعمة مؤقتة من جانب الله سبحانه وتعالى في فترة التيه.. هذه الأمة خاصة نحن اليمنيين في فترة التيه كما كان بنوا إسرائيل، والله سبحانه وتعالى رحيم. فالقات بالنسبة لنا كأنه أشبه شيء بطائر السلوى الذي منحه الله بني إسرائيل أيام التيه، المن والسلوى.

لنعد إلى أنفسنا فنصلحها، نصلح أوضاعنا، ليعيد الله سبحانه وتعالى بركات السماء والأرض إلينا من جديد؛ لأنه في الواقع بالنسبة للقات، محصول القات عندما تبيع فيجتمع لديك مبلغا من المال، ماذا ستعمل بهذا المبلغ؟ ألست ستشتري حبوبا، وتشتري مواداً غذائية، تشتري فول من الصين وفاصوليا من الصين وعدس من تركيا، وتشتري بقوليات من خارج، وحب من خارج، تشتري ملابس من خارج، تشتري بهذا كله من خارج، أليس بالإمكان أن يعمل الناس ليتوفر ما يحتاجون إليه داخل بلدهم؟. لكن متى؟ متى ما حاولنا أن نصحح وضعيتنا فنخرج من حالة التيه، حتى لا نعد محتاجين إلى طائر السلوى، كما احتاج بنوا إسرائيل.

هل كان طائر السلوى ممكن أن يكون بديلاً عن الأغنام والأبقار والإبل؟ مؤقتاً، نعمة مؤقتة، فالقات هو نعمة مؤقتة، ولكن في نفس الوقت يجب أن نشكر الله عليها. في نفس الوقت يجب ألا يترسخ لدينا بأنها هي الشجرة التي يجب أن تبقى. فأزرعها أنا ويزرعها أولادي من بعدي، ثم أولادهم وهكذا.

ما دمنا مفتقدين إلى تأمين غذائنا فلا نستطيع أن نعمل شيئاً، ولو كانت كل الصحاري قات، ولو كانت كل الجبال قات، لا نستطيع أن نقف موقفاً واحداً ضد أعداء الله، أصبحت حاجتنا إلى الغذاء أشد من حاجة المسلمين إلى السلاح.. هل تفهمون هذا؟.حاجتنا إلى الغذاء أشد من حاجتنا إلى السلاح في ميدان وقفتنا ضد أعداء الله.

الغذاء، القوت الضروري لا تستطيع أن تقف على قدميك وتصرخ في وجه أعدائك وأنت لا تملك قوتك، وإنما قوتك كله من عندهم.

ولكن نحن نقول أن اتخاذ المواقف هو في نفس الوقت من مقدمات العودة إلى الله سبحانه وتعالى، أو بداية العودة إلى الله لنعد إلى أنفسنا، فنراه سبحانه وتعالى يطلب منا ويأمرنا بأن نكون أنصاراً لدينه، وأن نعتصم جميعاً بحبله، وأن نكون أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، تدعو إلى الخير، تقوم بهذه المهمة في الناس جميعاً.

فأملنا كبير في الله سبحانه وتعالى أن يعيد إلينا بركات السماء والأرض، فيستطيع الناس أن يعودوا إلى زراعة الحبوب، وزراعة مختلف الأصناف من الثمار التي هم بحاجة ماسة إليها.

إذا كنا نعتقد أو كانت أنفسنا مطمئنة هكذا إلى أن هذه الشجرة أصبحت هي الشجرة الرئيسية التي نزرعها فيزرعها أبناؤنا من بعدنا إلى آخر أيام الحياة، هذه نظرة خاطئة فعلاًَ، هذه نظرة خاطئة.

ولكن لا نعتبرها مصيبة، ولا نعتبرها طامة في ظروف كهذه.. لا.. هي نعمة في ظروف كهذه، هي رحمة من الله، رحمة من الله كما رحم بني إسرائيل بطائر السلوى في فترة التيه، وهم تائهون في صحراء سيناء، فكثير من الناس يلعنون هذه الشجرة، يلعنونها وينسبون إليها كل سوء!. هي رحمة، هي نعمة، ولكن في نفس الوقت ليحذر أولئك الذين يعملون على أن يبدلوا نعمة الله كفراً، وأن يحلوا قومهم دار البوار، من يبيعون القات فيدخلون في مبايعات محرمة، يدخلون في مبايعات فيها الكثير من الأيمان الفاجرة، فيها الكثير من الكذب.

لا يجوز للناس أن يبدلوا نعمة الله كفراً، ماذا لو ضرب الله هذه الشجرة، ونحن في أوضاع كهذه؟. ماذا سنعمل؟. لو حاول الناس أن يزرعوا حبوباً من جديد، فحتى لو قلنا بالإمكان أن يكون هناك مضخات فالماء في الأرض قد ضرب أيضاً. الله بيده كل شيء، هو مالك الملك، إذا كنت تعتقد بأن بإمكانك أن تستغني عن المطر.. هي مؤشرات خطيرة، نقول للناس لا بد من عودة إلى الله، وحتى لو قلنا الحكومة نفسها تعمل شيئاً ماذا يمكن أن تعمل؟.

أن تعمل مضخات، الماء في الأرض مشرف على الانتهاء، تعمل سدوداً، السدود تحتاج إلى أمطار، ثم إذا جاء سد، يكون الناس بحاجة إلى اغترافه لبيوتهم ومواشيهم، بالدرجة التي لا يكادون يوفرون إلا القليل للزراعة، ثم في هذه الجبال الشاهقة أين مواقع السدود الكبيرة التي يمكن أن تكون سدوداً كبيرة تكفي لسقي المزارع وحاجات البيوت والمواشي؟.

لا مجال إلا العودة إلى الله سبحانه وتعالى، فنشكر الله على هذه النعمة، نبتعد عن الأيمان الفاجرة، عن الكذب، عن الغش، عن الخيانة، لا يلهينا العمل في التجارة في هذه الشجرة عن ذكر الله تعالى، عن أن تؤدي بنا إلى التقصير في طاعة الله تعالى، هذه نعمة سنحولها إلى كفر.

نشكر الله سبحانه وتعالى عليها وفي نفس الوقت نحاول أن نهيئ أنفسنا بالشكل الذي نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يعيد علينا بركات السماء وبركات الأرض.. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}(الأعراف: من الآية96) هذا وعد من الله سبحانه وتعالى {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}(نوح:12) أليس هذا من وعود الله سبحانه وتعالى؟.{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} (الجـن:16).

والحياة مرتبطة بالماء، الأرزاق مرتبطة بالماء، بل حريتنا مرتبطة بالماء، بل نصر ديننا مرتبط بالماء، والماء بيد من؟.خزائنه بيد الله تعالى.. فالله سبحانه وتعالى متى ما رجعنا إليه فهو رحيم بنا، هو من يرحمنا حتى ونحن في حالة الإعراض عنه فيسعفنا بجرعات اقتصادية، ليست كالجرعات الاقتصادية التي تأتي من قبل الحكومة كرفع أسعار ونحوها، بل يعطينا أشياء يهيئ لنا المعيشة بأشياء في حالة مؤقتة حتى نصحح وضعيتنا، وحتى يمكننا أن نعود إلى وضعنا الطبيعي، وضعنا الطبيعي الذي يمكِّننا من أن نعتمد على أنفسنا، فيما يتعلق بغذائنا، فيما يتعلق بحاجاتنا ـ ولو على الأقل ـ الضرورية.

حتى البيضة تأتي من خارج، الدجاجة تأتي من خارج، كل ما بين أيدينا كل ما في مطابخنا، كل ما في أسواقنا كله من خارج، من عند أعدائنا، أليست هذه وضعية سيئة، وضعية خطيرة جداً.

ثم إذا كنا مصرين على أن نزرع القات جيلاً بعد جيل، هذا أيضاً من الإصرار على أننا لسنا مستعدين على أن نقف موقفاً يرضي الله سبحانه وتعالى، في مجال نصر دينه، وإعلاء كلمته، وأن نقف في وجه المفسدين في الأرض: اليهود والنصارى وأوليائهم.. إذا كنت مصرًّا على زراعة القات باستمرار وأن تورثها للأجيال من بعدك فأنت مصر على قعودك عن نصر دين الله؛ لأن الله عندما يقول لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ}(الصف: من الآية14) يأمرنا بأمر يوجب علينا أن نهيئ وضعيتنا بالشكل الذي نستطيع أن نكون فيه ممن يحقق نصر الله، ومنه الجانب الاقتصادي، تأمين غذائنا.

فليحاول الناس ـ وقد كثرت الأسر ـ أن يحرثوا أي أماكن لا تزال غير مزروعة، يحرثونها وليس كل مكان يجهزونه للزراعة يغرسونه قات، يحاول الناس أن يزرعوا الحبوب، ولو بنسبة بسيطة، ونرجع قليلاً قليلاً إلى وضعنا الطبيعي في رجوعنا إلى الله سبحانه وتعالى من خلال رجوعنا إلى الله قليلاً قليلاً حتى نعود بالشكل الذي يريد الله سبحانه وتعالى أن نكون عليه.

نعود إلى نفس الموضوع:

{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} (الواقعة:68) أأنتم ترون هذا الماء؟. نعم نحن نراه، ونحن نعرف أننا لسنا نحن الذين نخلقه وننتجه، هل الماء تنتجه المصانع؟. {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} (الواقعة:69).

سؤال، كيف سيكون الجواب: أنت يا الله الذي تنـزله من المزن، من السحاب {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً}(الواقعة: من الآية70) مالحاً فلا يصلح للشرب ولا يصلح لسقي الأرض، هل بإمكانك أن تسقي نباتات من البحر؟. لا يصلح.

أليس ماء البحر كثير جداً؟ لكن لا يصلح لا للشرب ولا لزراعة الأشجار، ولا لسقي المزارع بل ولا يصلح أحياناً استخدامه مع بعض أدوات التنظيف، أحياناً لا يصلح استخدامه مع بعض أنواع الصابون، لا يقبل.

ألسنا مؤمنين بأن الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يجعله أجاجاً: مالحاً شديد الملوحة؟ يستطيع حتى ولو أبقاه كثيراً في متناولنا، لكن يستطيع أن يحوله إلى مالح, أو يغوِّره في أعماق الأرض {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} (الملك:30).

من الذي يعطيكم بديلاً، هل أمريكا يمكن أن تعطينا ماء؟. أو اليابان أو الصين يمكن أن يعطونا ماء؟. مصانع تنتج ماء؟ لا.. هل تستطيع الدولة نفسها أن تعطينا ماء؟. هي تصيح على الناس المزارعين بأنه حاولوا أن تقللوا من استخدام المياه العشوائي، مخزون الماء معرض للانتهاء. ليس المخزون، إنما هو نحن، مخزون العودة إلى الله قد انتهى، مخزون العودة إلى الله في أنفسنا هو الذي انتهى. نحن لو عدنا إلى الله لما خشينا؛ لأنه قال: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} (الجـن:16) فليكن من السماء وليكن من باطن الأرض.

الحفاظ على الماء في استهلاكه قضية مهمة، والتبذير بالماء هو من التبذير الذي نهى الله عنه في كتابه الكريم، وشبه المبذرين بأنهم إخوان الشياطين {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}(الاسراء: من الآية27) هذه الآية من الشواهد المهمة على أهمية الجانب الاقتصادي في حياة الناس، على أهمية الجانب الاقتصادي فيما يتعلق بقيامهم بواجباتهم ومسئولياتهم أمام الله سبحانه وتعالى؛ لأن حياتنا مرتبطة بالماء، فغذاؤنا مرتبط بالماء، رزقنا مرتبط بالماء، بل سماه رزقاً في آيات أخرى سمى الماء رزقاً، هكذا مباشرة.

فمن يبذر بالماء كأنه شيطان، أي كأنه يعمل على أن يضرب الأمة من أساسها، حتى لا تستطيع أن تقف على قدميها في النهوض بواجباتها الدينية {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} هو لا يقدر نعمة الله سبحانه وتعالى، هو لا يعترف بالأهمية الكبرى للماء في أنه هو أساس الحياة، هو عمود الحياة: حياة الأرض، وحياة الأنفس، بل حياة الإيمان، حياة الدين، بل حياة الأمة، عزتها كرامتها.

إسرائيل تحاول أن تهدد سوريا والعراق بضرب الأنهار التي تأتي من داخل تركيا في اتفاقيات مع تركيا بأن تحول الماء إلى داخل إسرائيل، لاحظوا كيف اليهود داخل إسرائيل يحاولون بأي طريقة على أن يحصلوا على كميات كبيرة تؤمن لهم حاجتهم من الماء، أذكياء، أذكياء، بأي طريقة يحاولون أن يحصلوا على ما يؤمن لهم الماء من أجل أن يستطيعوا أن يقفوا على أقدامهم أكثر مما قد حصل في مواجهتنا.

والعرب يتعرضون في شعوب كثيرة إلى أزمة مياه، بل هي قد تكون الأزمة الخانقة داخل هذه الأمة؛ لأن معظم الشعوب العربية لا تمتلك أنهاراً، أو لديها أنهار تأتي منابعها تأتي من بلدان هي لا تزال تحمل عداءً سواء للإسلام أو للعرب. بعض البلدان وإن كانت إسلامية مستعدة أن تدخل في اتفاقيات تضر بالبلاد الإسلامية العربية، لعداء للعربي لديهم، في الوقت الذي تعمل إسرائيل على أن تحصل على كميات كبيرة من الماء حكوماتنا هنا لا تحاول أن تفكر جادة في ما هو الذي يؤمن لها الماء، فقط يوجهوننا إلى ترشيد استهلاك الماء، سواء في المنازل أو في المزارع، هذا جيد لكن ماذا تملكون أنتم في سبيل توفير المياه؟.

تبنى سدود صغيرة هنا وهناك وخزانات صغيرة هنا وهناك، هذه الخزانات وهذه السدود جيدة، لكنها لا تؤمن الحاجة الضرورية للماء إلا للبيوت على أكثر تقدير، بالنسبة للمزارع كثير من المناطق لا يصلح فيها سدود تكون كافية لسقي الأراضي ولفترات طويلة فيما لو بقي الجفاف من سنتين فما فوق.

لماذا إسرائيل تفكر أن تحصل على الماء وتؤمن لنفسها، وأنتم لا تفكرون؟!.

إذاً نحن مسلمون.. أقل من تلك التكاليف التي تصرف على محطات تحلية للماء على البحر نعود إلى الله سبحانه وتعالى هو الذي وضع لنا حلاً {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} (الجـن:16) أليس هذا وعداً إلهياً؟. لماذا لا تعمل الحكومات على أن تستقيم على الطريقة وأن تعود بشعوبها إلى الاستقامة على الطريقة، والتي منها أن تستقيم وتقف على الاستقامة في مواجهتها لأعداء الله سبحانه وتعالى؟ لا تتمثل استقامة الطريقة في صلاة الاستسقاء، ولا في الدعاء إلى الله، ونحن لا نعمل لدينه شيئاً، لا نعمل في مجال إصلاح عباده ومحاربة المفسدين في أرضه أي عمل.

وفِّروا على شعوبنا القروض، قروض كثيرة تثقل كاهل أي شعب، تؤدي إلى أزمات اقتصادية خانقة، وفروا علينا القروض وحاولوا أن نعود نحن وأنتم إلى الله سبحانه وتعالى، حتى نؤمن لأنفسنا غذاءنا، ونؤمن لأنفسنا مصدر حياتنا وأساس الحياة، وعمود الحياة وهو الماء.

وحتى في حالة افتراض أن هناك ماءًً متوفرا لا بد أن نتذكر نعمة الله سبحانه وتعالى بهذا الماء، فإذا كنت ممن لا يتذكر نعمة الله فهو هنا يقول لك:{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ}(الواقعة:69).

كيف ستكون الإجابة؟ أليس أنت يا الله؟ إذاً تذكر نعمة الله، فإذا كنت تجيب بأنه من الله وبالتالي ترى أن كل شؤون حياتك، مصادر غذائك، مصادر حاجاتك كلها متوقفة على الماء، إذاً فهو نعمة وأساس لنعم كثيرة، فاشكر الله على هذه النعمة الكبيرة التي هي أساس النعم، واشكر الله على كل نعمة هي متفرعة من تلك النعم الأساسية.

{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} (الواقعة:71) تقدحونها فتشتعل، النار هي أيضاً من الأشياء الضرورية في الحياة، كم من الصناعات تحتاج إلى النار؟ كم من أنواع الغذاء ـ بالنسبة لنا ـ يحتاج إلى النار، نحتاج إلى النار في بيوتنا، نحتاج إلى النار في كثير من مصانعنا، سواء النار بشكل كهرباء أو النار المعروفة، نحتاج إليها للإضاءة، وللوقود وإلى أغراض كثيرة.

{أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} (الواقعة:72) يوم كان العرب يقدحون زناداً في زناد بشجرتين فتنقدح النار فيشتعل العود، يقول لهم: {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} هذه الشجرة التي هي آية من آيات الله، عود ثقاب وإن كان أخضر ينقدح فيشتعل ناراً {أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} أنت المنشئ يا الله.

إذاً فالنار هي نعمة، النار هنا في الدنيا ـ طبعاً ـ هي نعمة كبيرة من نعم الله على الإنسان، ومصدرها هو بيد الله، هو الذي ينشؤها، هو الذي أنشأها، فهي نعمة من النعم الكثيرة.

لاحظوا هنا الآيات تتحدث عن ثلاث نعم أساسية كبرى: نعمة التربة، ونعمة الماء، ونعمة النار، وهي نعم كبرى، وهي أساس تقريباً لكل النعم الأخرى في الحياة فاشكر الله على هذه النار، واشكر الله سبحانه وتعالى على كل نعمة متفرعة من هذه النعمة الكبرى، تذكر نعمة الله عليك.{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} (الواقعة:73) هذه النار تذكر بالنار الكبرى بالآخرة بنار جهنم {وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} (الواقعة:73) كما يقول المفسرون: للمسافرين.

فهنا في هذه الآيات رأينا كيف أن الله سبحانه وتعالى هو الذي ذكرَّنا بنعمه بهذا الأسلوب الذي هو أسلوب الإشهاد والإقرار، يجعلنا نشهد ونقر لنكون من يحكم على أنفسنا في الأخير، إما أن نكون من الشاكرين أو من الكافرين، ولنبصر فيما بعد, بعد أن نكون قد أقررنا وشهدنا على أنفسنا بأنه أنت يا الله من تزرع أنت يا الله من تنـزل الماء من المزن، أنت يا الله من خلقت مصادر هذه النار، نشهد على أنفسنا إما بأن نكون كافرين وإما بأن نكون شاكرين.. فنرى ما هو الذي يليق بنا أمام هذه النعم التي أقررنا بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي منحنا إياها وذكرنا بها على هذا النحو المثير.

ولنعد أيضاً إلى آيات أخرى فيها كثير مما عرضه الله سبحانه وتعالى من نعمه على الناس. وكما قلنا سابقاً: بأن الحديث عن نعم الله هو يعطي أكثر من معنى، فهي في نفس الوقت من مظاهر تدبير الله سبحانه وتعالى لشؤون خلقه، من مظاهر رحمته بعباده، من مظاهر رعايته لعباده، من مظاهر حكمته، من مظاهر قدرته العجيبة، من مظاهر علمه الواسع، من مظاهر ملكة، أنه هو من يملك السموات والأرض وما بينهما، وهو رب هذا لعرش العظيم، لا يكاد ينتهي الكلام حول هذه الآيات التي سرد الله فيها كثيراً من النعم التي على الإنسان؛ لأنها مهمة في كل مجال.

فمتى ما جئت تتحدث عنها باعتبارها من مظاهر رحمة الله، فما أوسع الحديث عنها. ومتى ما جئت تتحدث عنها باعتبارها من مظاهر حكمة الله فما أوسع الحديث عنها. وباعتبارها من مظاهر قدرة الله وعلمه بكل شيء ورعايته ولطفه فما أوسع الحديث عنها، وفي كل الأحوال ما أهم تذكر الإنسان لها، وما أعظم أهمية أن يتذكرها الإنسان لما تعطيه من دروس في كل هذه المجالات التي ترشد إليها، وتنبئ عنها فيما يتعلق بكمال الله سبحانه وتعالى.

يقول الله سبحانه وتعالى:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ  يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل:2)

هذا أول شيء، وأهم النعم نعمة الهداية بالنبوة بإرسال الأنبياء بإنزال الكتب، بالنسبة لنا نحن المسلمين إنزال القرآن والرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (النحل:3) خلقها ليس لمجرد هواية أن يخلق، ممارسة هواية.. لا.. هو خلقها بالحق، هناك غاية مهمة مرتبطة بها {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (النحل:4) خلقه من نطفة {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ}(السجدة: من الآية8) كما قال عنها في آية أخرى، فإذا هو عندما يكبر ويشتد ساعده، ويتمتع بكامل قوته يصبح خصيماً لله، معانداً متمرداً {مُبِينٌ} بيِّن الخصومة والعناد والتمرد.

أليس الإنسان ظلوم كفار؟. وعادة ينطلق الإنسان في أن يكون خصماً لله تعالى، وهو في أوسع حالات التنعم بنعم الله تعالى، ما يتمتع به من قوة في بدنه، وما يتمتع به من نعم الله بين يديه، {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (العلق:6ـ7)

فمتى ما توفرت له النعم، متى ما رأى نفسه يمتلك كامل قواه وبصحة جيدة ينطلق مخاصماً لله، ينطلق معانداً لله، وجاحداً لله وكافراً بالله، ورافضاً لدينه، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(ابراهيم: من الآية34) {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس:17).

أحياناً يكون أولئك الفقراء أقل طغياناً، أقل ظلماً، أقل تكبراً، لا تزال لديهم كثير من مشاعر الحاجة إلى الله، والعودة إلى الله والطلب إلى الله سبحانه وتعالى، وبعضهم متى ما استغنى ورأى نفسه وهو ذلك الذي كان كثير الدعاء لله، وكثير الالتجاء إلى الله يوم كان ضعيفاً، يوم كان مريضاً، يوم كان مفتقراً، ومتى ما استغنى، ومتى ما تمتع بكامل قوته انطلق خصماً لله.

أليست حالة أن تكون متمتعاً بكامل قوتك البدنية، متمتعاً بنعم واسعة عليك هي الحال التي يجب أن تكون فيها أكثر عودة إلى الله وخشوعاً لله، وحياء من الله، وعبادة لله، أليس هذا هو الوضع الطبيعي لك؟. لو كنت تفهم.

كما كان نبي الله سليمان صاحب الدنيا الواسعة والملك العظيم، ذلك الذي يقول: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}(النمل: من الآية19) هذا هو الوضع الصحيح لمن يمتلكون نعما مادية ومعنوية.

{وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ}(النحل: من الآية5) الأنعام هو اسم يطلق على الإبل والبقر والغنم بأصنافها {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (النحل:5 ـ6) أيضاً مظهر من المظاهر التي تسر الناس في حياتهم، منظر جميل يتمتعون به، هل أحد منكم شاهد هذا المنظر، ولو زمان؟. يوم كانت القرى بعد أن تشرق الشمس على الناس فيفتحون أبواب البيوت والأبواب التي يسمونها [الأحواش] التي للغنم فتخرج قطعان الغنم، منظر جميل.

أنا شاهدت هذا المنظر شاهدته قديماً وأنا صغير.. منظر رائع وجميل وقطعان الغنم من الضأن والمعز تتقدمها البقر وهي تسرح إلى المرعى، حركة القرية وأجواء القرية تكون جميلة جداً، ربما كثير منكم لم يشاهد هذه المناظر.

{وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} وأنتم تذهبون بها إلى المراعي ثم عندما تعودون بها من المراعى.

{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (النحل:7) رءوف بكم رحيم بكم، يهيئ لكم هذه الحيوانات المختلفة والمتعددة الفوائد والأغراض، وأنتم لا تملكون أن تسخروها لأنفسكم فسخرها لكم؛ لأنه رؤوف بكم، رحيم بكم.

{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (النحل:8) في الوقت الذي يجعل الله سبحانه وتعالى هذه الحيوانات مما يحقق لنا أغراضاً كثيرة عملية، يلحظ أيضاً بأن يكون شكلها، أن يكون مظهرها جميلاً.. أن يكون جميلاً حتى جانب الزينة أن تكون مناظر جميلة، وحركات جميلة، حركات الأغنام، قطعان الأغنام ومنظرها وهي تسرح وهي تعود، الخيول البغال الحمير.. أليست مناظر جميلة؟ حتى الجانب الفني أو جانب الجمال، جانب الجمال هو أيضاً مما هو ملحوظ داخل هذه النعم الإلهية. فتتمتع أعيننا، وأنفسنا ترتاح إلى هذه المناظر، في الوقت الذي كنا بحاجة إليها حتى ولو كانت قبيحة.

وتلاحظ هذه السنة الإلهية من الله سبحانه وتعالى في مختلف النعم التي الإنسان بحاجة إليها كيف يكون ملحوظ فيها جانب الجمال، الجانب الفني، الفواكه التي نأكلها، أليست أشكالها جميلة؟. وروائحها جميلة؟.

لكن ـ لاحظ ـ بالنسبة لأهل النار كيف قال عن تلك الشجرة التي يأكلونها، شجرة الزقوم {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا ـ ثمارها ـ كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} (الصافات:64ـ65) قبيحة جداً، فمنظرها بشع ومذاقها مر شديد المرارة، وساخن جداً {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} (الدخان:45).

لكن لاحظوا هنا في الدنيا الفواكه، الأشجار التي ثمارها من الأقوات الضرورية لنا.. أليست جميلة؟. ما أجمل عندما تتطلع إلى مزارع الذرة أو مزارع البر والشعير أليس منظرا جميلا؟. مزارع البن مزارع القات، مزارع الموز وغيرها من الأشجار أليست مناظر جميلة؟.

ثم تجد كل شيء مما هو نعمة علينا أيضا مرتبط أو مترافق معه جانب الجمال، أليست هذه رحمة من الله سبحانه وتعالى بنا؟. ولأنها نعمة أخرى أيضاً في حد ذاتها، نعمة أخرى من النعم الكبيرة. لو أنك إنسان هكذا تحتاج إلى الأكل إلى الشراب تحتاج إلى حيوانات أخرى تسخر لك ثم تجد كل شيء بشعاً أمامك أنت محتاج إلى أن تشبع بطنك فقوتك شكله بشع ومذاقه مر، لكن رغماً عنك ستأكل من أجل أن تشبع بطنك، من أجل أن تستطيع أن تواصل حركتك في الحياة، أليس من الضروري أن يأكل الإنسان حتى وإن كان مذاقه مراً؟ وإن كان غير سائغ؟. لا بد.. لكن لا. الله سبحانه وتعالى يجعل شرابنا سائغاً ويجعل مذاقه جيداً، وطعامنا كذلك سائغاً ومذاقه جيداً، وشكله جميلا وفواكه جميلة وأذواقها سائغة ومناظرها جميلة.

{وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}(النحل: من الآية8) مما أنتم بحاجة إليه، يخلق مالا تعلمون مما هو مسخر لكم، يخلق مالا تعلمون؛لأنه على كل شيء قدير، وكم من المخلوقات الكثيرة التي لا تعلمونها خلقها الله سبحانه وتعالى.

{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل:9) تأمل في هذه الآية عدد لنا جملة نعم، بدءاً من خلق السموات والأرض، ومن خلقنا نحن، ومن خلق الأنعام، بعد أن ذكر النعمة الكبرى، نعمة الهداية {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (النحل:2) وكأنه يقول لنا: أنا الذي أهدي، وأنا الذي يهمني أمركم، وأنا المتكفل برسم الخط الذي تسيرون عليه، خط الهداية فتهتدون به في حياتكم، وتهتدون به إلى ما فيه جنة ربكم كأنه يقول لنا هذا.. وهو هو من له الحق في أن يهدي، وهو هو من لا يمكن أن يفرط في هدايته لعباده إذا كان هو الذي يرعاهم هذه الرعاية في شئون حياتهم.

{إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}(النحل: من الآية7) عندما يخلق هذه الأنعام التي سخرها لكم أليس هذا يدل على أنه رؤوف رحيم بكم؟. فكيف يمكن أن يفرط في هدايتكم، في أن يرسم لكم خط الهداية الذي تسيرون عليه المتمثل بالكتب، والمتمثل بالرسل، المتمثل بالقرآن الكريم وبالرسول العظيم (صلوات الله عليه وعلى آله) هي أول نعمة منه، وهي النعمة التي تكفل بها، فإذا كنتم ترون في هذه النعم التي تشاهدونها من الأنعام وغيرها ما يدل على أن الله رؤوف ورحيم بكم، فتذكروا، وتأكدوا بأنه لا يمكن أن يفرط في مجال هدايتكم، وهو الذي نزل هذا القرآن بكله من أجل هدايتكم.

هو يقول لنا: أن نقطع على أنفسنا من منطلق الثقة به أن من رعانا هذه الرعاية في حياتنا بهذه النعم الواسعة التي لم ينس أن يلحظ فيها جانب الجمال لا يمكن أن يفرط في الهداية، لا يمكن أن يتركنا حائرين في هذه الدنيا، لا يمكن أن يضيعنا، إنه رؤوف رحيم، إنه رؤوف رحيم؛ ولهذا قال هنا في متوسط الآيات التي تحدث فيها عن النعم المادية يقول: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}(النحل: من الآية9) عليه هو ليس إليكم هذا المجال.

هذه نعم مادية تتقلبون فيها على النحو الذي يطور الحياة، على النحو الذي هي مسخرة من أجله أو عليه، لكن فيما يتعلق بجانب الهداية لا تفهموا أنني عندما خلقت لكم هذه الأنعام وأنزلتها ـ كما قال: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}(الزمر: من الآية6) ذكر أنه أنزلها: من الأنعام ثمانية أزواج ـ أنه فيما يتعلق بجانب التشريع، بجانب الهداية أنها أيضاً يقول: خذوا تفضلوا أنتم تحركوا كما تريدون فيه. لا. لا تنظروا إلى جانب الهداية كنظرتكم إلى جانب النعم؛ لأنه خلق لكم، أنزل لكم، منحكم، فأنتم تتحركون فيها فهذا يربي غنماً، وهذا يربي بقراً، وهذا يربي إبلاً، وهذا يربي كذا وكذا.

فيرى الناس أنفسهم أنهم يتصرفون فيها بحرية وكيفما يشاءون فينظرون إلى جانب الهداية على هذا النحو، لا.. الله يقول: {وَعَلَى اللَّهِ} وحده {قَصْدُ السَّبِيلِ} أن يرسم الصراط المستقيم الذي تسيرون إليه، الصراط القاصد الذي يؤدي إلى الغاية المرجوة من وراء الهداية في هذه الدنيا، وفي الآخرة.

{وَمِنْهَا جَائِرٌ} (النحل: من الآية9) ومن السبل في هذه الحياة ما هو جائر، فإذا كانت السبل متعددة في الحياة ويأتي المجرمون والظالمون فيرسمون سبلاً من الضلال، يدعون الناس إلى السير عليها، فهو يقول: أنا لا أنساكم، وأنا الذي سأتكفل بهدايتكم، ورسم السبيل القاصد، الصراط المستقيم الذي هو هداية حقيقية لكم في هذه الحياة. {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}(النحل: من الآية9) بأن يوحي إلى كل شخص، أو كما يقول المفسرون العدلية: عن طريق القسر والإلجاء غصباً عنك، يهديك غصباً عنك.

شاء الهداية وهدى على هذا النحو من إنزال الكتب، إنزال القرآن، وبعث الرسول محمد (صلوات الله عليه وعلى آله)، وأن يجعل في هذه الأمة ورثة لكتابه هم أهل بيت نبيه. الهداية تكفل بها، الهداية قد رسم طريقها، وهو يقول لنا ـ وسنتابع الحديث عن بقية الآيات لتلمسوا كيف أنه داخل الآيات التي تتحدث عن النعم ـ يقول لنا: هذه النعم المادية شيء عظيم، وأنتم في الحياة في حالة تعدد السبل الجائرة أيضاً أنا أتكفل بهدايتكم، سأرسم لكم الطريق القاصد الصراط المستقيم.

وجاء هنا بهذه العبارة لكي يفهم الناس، ويفهم من يقولون: بأن كل إنسان فلينطلق ليجتهد، لينطلق ليشرع يقول له هنا: {وَعَلَى اللَّهِ} وحده {قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}(النحل: من الآية9) يقول لأولئك الذين يعملون مجالس تشريعية في مختلف المناطق في البلاد الإسلامية ليشرعوا، ليقننوا: إن كنتم تقننون فقط على وفق أحكام الله، وتشريع الله، وهدي الله سبحانه وتعالى عندما تنصون على المجالات المتعددة المتجددة في الحياة بربطها، فإن كان من منطلق أن الإنسان يملك حق التشريع لنفسه فهذا لا يبعد أن يكون من الشرك بالله سبحانه وتعالى، وإن كان فقط مجرد إخراج، مجرد تفصيل للهداية الواضحة التي قد رسمها الله سبحانه وتعالى فلماذا تسمون تلك المجالس مجالس تشريعية؟. لا يصح أن تسمى مجالس تشريعية بأي حال من الأحوال.

كما ونحن في حالات التقنين والتشريع ـ كما يقولون ـ يجب أن نعتمد على القرآن الكريم، وعلى أهل البيت، على ورثة الكتاب، وليس فقط أن ندرس قوانين، ثم نقول: نحن مقننون، ثم ننطلق لنضع قوانين، ونصدر قوانين، ونحاول أن نستفيد من القانون المصري الذي هو مستفيد من القانون الفرنسي والبريطاني، وهكذا، وتنتهي المسألة، وإذا بنا نوصِل إلى داخل أوطاننا ما قننه أعداؤنا، الذين انطلقوا ليقننوا لأنفسهم؛ لأنهم كافرون بكتاب الله، كافرون برسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، وكأنه ليس فيما بين أيدينا من الهدى ما يمكن أن يتناول شئون الحياة، ومستجدات الحياة، والله هو الذي يقول لنا: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ}.

ألست ترى هذه الأنعام ما تزال موجودة وقائمة؟ أليس هناك خيل، وبغال، وحمير، وبقر، وغنم، وإبل ما تزال موجودة، هو في الوقت الذي يذكرك بأنها نعم في نفس الوقت عليه قصد السبيل إذا كنت ملتجئاً إليه، إذا كانت الأمة ملتجئة إليه، وملتجئة إلى الثقلين، للتمسك بالثقلين بكتاب الله، وعترة رسوله (صلوات الله عليه وعلى آله) فما زالت الحياة، وما دامت الحياة مستمرة فستظل الطريق القاصدة، والصراط المستقيم قائمة الله تكفل بهذا، تكفل به كما ذكر الأنعام، فكيف نرى الأنعام ما تزال قائمة، وباقية، ثم ما يتعلق بقصد السبيل، والهداية نقول: انتهت ذاك اليوم، وكل واحد يقوم يبحث هو عن الهداية لنفسه! هل هذا صحيح؟.

قد ربما لو قلنا: نحن رأينا الأبقار، والأغنام والإبل، والخيل، والبغال والحمير هذه انتهت من الدنيا، يمكن إذاً فكل ما تناولته هذه الآيات ربما قد رفع، وانتهى. لكن العجيب هو أننا نرى في الوقت الذي نجد هذه الآية، الآية التي تدل على الهداية، وأن الله هو الذي يتكفل بالتشريع لعباده، وهداية عباده، تتوسط الحديث عن نعمه، ونحن ما نزال نرى نعمه قائمة، ثم نقول: أما قصد السبيل فيبدو بأنه قد غاب، كيف يرفع الله ما نحن في أمس الحاجة إليه: هدايته، ويترك لنا البقر والحمير، والإبل، والغنم، وهذه المواشي؟!. أليست هداية الله لنا في هذه الحياة هي أهم؟. هل تبقى الحمير، ولا تبقى هداية الله؟!. بحيث تبقى الحمير في هذه الدنيا كنعمة يحافظ الله عليها أن تبقى، ولا يحافظ على أن تبقى نعمة هدايته قائمة!.. لا يصح هذا.

أم أننا رأينا أن الإنسان هو أحوج إلى الحمار أكثر من حاجته إلى هداية الله؟! نحن نرى أنفسنا مستغنين عن بعض هذه الحيوانات أليس كذلك؟. قد نستغني عنها، وقد تتطور الحياة فيستغني الناس عن كثير من هذه الحيوانات، لكن لا يمكن أن يستغنوا عن هدايته؛ لأنه هنا قال: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} أنتم لو فكرتم بأن بإمكانكم أن تستغنوا عن الإبل، والخيل والبغال، والحمير كوسائل نقل، قد يحصل بدائل، لكن هذا، ما يتعلق برسم الطريق القاصد في الحياة هو على الله وحده، ليس بإمكانكم أن تضعوا بديلاً عنه، ولو حاولتم أن تضعوا بديلاً عنه فإنما هو الضلال بدلاً عن الحق، إنما هو الظلام بدلاً عن النور، إنما هو الشقاء بدلاً عن السعادة.

ثم بعد هذه الآية يقول سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} (النحل:10) ترعون فيه مواشيكم {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (النحل:11 ـ12) يفهمون، يفهمون ما وراء هذه فَهْمَ من يعقل، فيحفظ، ويقف، {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (النحل:13).

{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} ما نشر من الأشياء الكثيرة من مختلف الأصناف نباتات، وحيوانات، وتربة وأحجار مختلفة الأصناف، متعددة الأغراض {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}(النحل: من الآية14) أليس هذا أيضاً عودة إلى جانب الجمال؟. {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}،{وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ}(النحل: من الآية14) السفن وهي تمخر الماء بمقدمتها، وببطنها، وهذه من الآيات العجيبة، سفن ثقيلة هل هي تمشي على سطح صلب فتستمسك؟. لا، إنه سطح هي تخرقه، وتشقه، فتمخره فمن الذي يمسكها؟.

إنه الله سبحانه وتعالى الذي جعل في هذا الماء، وفي هذه المعادن، أو هذه الآليات، أو تلك المادة التي تجعل من الممكن أن تسير هذه السفن الثقيلة لا على أرض صلبة بل على سطح قابل للإنمخار، فتمخره بمقدماتها، فيتجه يميناً وشمالاً وهي تشقه وهو عن يمين السفينة وشمالها، ترى كيف يطلع بكميات كبيرة، كالجدار الكبير. هذه الآية عجيبة من آيات الله؛ لأن الشيء الطبيعي هو أن الأشياء الثقيلة لا تستمسك إلا على سطح صلب، فالماء ليس صلباً سطحه، بل هو ينشق فتمخره السفن، مع ذلك تستمسك فوقه، وتجري فوقه.

الحركة التجارية وكأنه مطلوب من الإنسان أن يتحرك في هذه الدنيا عندما يقول:{وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ}(النحل: من الآية14) تتحرك متجهة كذا، ومتجهة بالاتجاه الآخر {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(النحل: من الآية14)} تطلبون من فضل الله بالتجارة، بالصيد، باستخراج الحلي من أعماق البحر. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ومتى ستشكرون؟. عندما تتذكرون بأن هذه من النعم العظيمة.

فلاحظ كيف يأتي بالتأكيد على تذكر النعم، وأن يظل الإنسان شاكراً وهو يبني حضارة، لا بد حتى تكون هذه الحضارة إنسانية حقيقية، وتكون في مصلحة البشرية، أن يكون من يقوم عليها، وينهض بها، من هم دائمو التذكر بنعم الله سبحانه وتعالى، وينطلقون في شكره {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} متى ما ضاع هذا الشعور لدى الإنسان أصبحت تجارته بالشكل الذي يضر بالبشر، يتجر في الأشياء الضارة، يمارس في عملية البيع والشراء كثيراً من المحرمات، يدخل في الربا.. أليس العالم الآن غارقاً في الربا؟ العالم غارق في الربا، والعالم في حرب مع الله {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}(البقرة: من الآية279).

وتجد من مظاهر هذه الحرب فساداً تجارياً، غلاء أسعار بشكل رهيب، هبوطاً حتى في مواصفات التصنيع من أجل مواكبة القدرة الشرائية لدى المستهلكين، المنتجات الجيدة ألم تغب عن الأسواق؟ منتجات جيدة من الإلكترونيات وغيرها من الصناعات، والأقمشة، وكثير من الآليات.. ألم تغب عن الأسواق؟. لماذا؟. ألم تهبط الصناعات، وتهبط المواصفات؟. تهبط وكل عام ترى الصناعات تهبط قليلاً قليلاً في مواصفاتها، في جودتها، لماذا؟. نزولاً عند رغبة المشتري، أو تبعاً لقدرته الشرائية؟.

الربا هو ضرب الناس حتى ضرب الصناعات فأصبحنا بدل أن كنا نتمتع بكثير من الصناعات الجيدة، ذات المواصفات الجيدة، في مختلف المجالات، ها نحن تغلب على أسواقنا منتجات مواصفاتها رديئة، ومتى ما رأينا قطعة جيدة [أصلية] من أي منتج، ورأينا سعرها مرتفعاً ألسنا نخرج من المعارض؟. ونقول: هذا سعره مرتفع، الحقيقة أنها أصلي لكنها سعرها مرتفع، والآخر قال: جيدة لكنها غالي، والرَّجال صاحب المحل في الأخير لا يستورد منها، صاحب المصنع في الأخير لا يعد ينتجها، يحاول أن ينتج إنتاجا آخر يتمشى مع حالة الناس.

فنحن في حرب مع الله، والله في حرب معنا بسبب المرابين، بسبب التجارة التي تقوم على الربا؛ لأن أولئك المرابين ليسوا ممن يتذكرون نعمة الله، وليسوا ممن ينطلقون في شكره؛ لأن من يتذكر بأن ما يتقلب فيه من أموال التجارة هو نعمة من الله عليه، سيحاول أن يبتعد عن المحرمات في التعامل، سيبتعد عن الربا.

{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً} (النحل:15) الرواسي هي الجبال لما كانت الأرض اليابسة هي في واقعها مفروشة على الماء، والماء يشكل نسبة كبيرة قـد يكون أكثر من 70% من حجم الكرة الأرضية بكلها، كانت ـ بالطبع ـ الأرض تعتبر قطعة صغيرة فوق سطح الماء، قابلة لأن تبقى تهتز وتتحرك، فألقى الله فيها الجبال تثبتها {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} لترسوا، فترسوا الأرض على الماء، ولا تكون مهتزة، فيمكن الاستقرار عليها.

أيضاً جعل في الأرض أنهاراً، أنهار المياه، جعل فيها سبلاً {وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} تهتدون وأنتم تتجهون في هذه الأرض، وأنتم تتقلبون في السفر إلى مناطق متعددة في هذه الأرض، جعل فيها سبلاً منافذاً.. أنت عندما تكون في الطائرة فترى منظر الأرض، تراها فعلاً لا ترى فيها منطقة مقفلة، حتى فيما يتعلق بتصميم الأودية، تجد كيف الجبال الشاهقة شعاب صغيرة فيها إلى أودية صغيرة، وأودية صغيرة تتجمع إلى أودية كبيرة، وتتجه هكذا باتجاه الصحراء، أو باتجاه البحر.

كذلك الأرض على الرغم من أن فيها جبالاً، لم تكن الجبال بشكل سدود، تحول بين الناس وبين أن يسافروا إلى جهات متعددة في الدنيا، بل جعل فيها سبلاً، جعل فيها منافذاً {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وأنتم تسيرون في هذه الدنيا لمختلف الأغراض.

كذلك {وَعَلامَاتٍ}(النحل: من الآية16) جعل علامات للسبل في البر، وعلامات في البحر {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}(النحل: من الآية16) المسافرون يهتدون في البر، والمسافرون يهتدون في البحر، فأعلام في البر بشكل الجبال المختلفة، أليست أشكال الجبال مختلفة؟ هذا من أهم الأشياء في أن تتعرف على المناطق، لو كانت الجبال كلها بشكلية واحدة، وتصميم واحد، فهي رواسي، واحد هنا، وواحد هنا، وواحد هناك، قد لا تستطيع أن تعرف وأنت تتجه.. لكن الجبال أنفسها، وشكليتها هي نفسها مما يساعد ـ أن كانت بشكل أعلام ـ وأنت تسافر فترى تلك القمة، قمة الجبل هناك، ترى الطريق من عندها إلى المنطقة الفلانية، فتراها قمة متفردة في شكلها.. أليس كذلك؟. فيها عبر كثيرة.

الجبال نفسها لعدة أغراض، ولعدة فوائد. فهي نفسها تساعد على أن تبقى الأرض فلا تميد فوق البحر، وهي نفسها غير مقفلة، قابلة لتحرك الإنسان عليها، هي نفسها قابلة للاستقرار عليها، بل أحيانا تطلع مساحة البلدان التي فيها جبال كثيرة تطلع مساحة كبيرة عندما تحسب وجه الجبل من هنا، ووجهه من هناك، ترى كيف أنه وبتصميم الله سبحانه وتعالى الذي هو حكيم لا يضيع حتى المساحة التي سيشغلها الجبل.. أليس الجبل ضروريا بالنسبة للأرض؟. سيجعل الجبل نفسه بشكل يكون أوسع مساحة من المساحة التي يشغلها في موقعه، فعندما تمسح مساحة الجبل من هنا كم سيطلع؟ ومن جانب آخر كم سيطلع؟. ستراه أكثر من المساحة التي يشغلها الجبل.

لأن الله حكيم، هو لا يبذر، هو لا يضيع، يقول: الجبل ضروري، سنضع الجبل وإن كان كذا.. أهم شيء أن ترسو الأرض، فنرى الجبل هذا، وسلسة من الجبال تشغل مساحات واسعة من الأرض، ثم هي نراها لا تصلح للسكن عليها، ولا تصلح للتحرك فيها، عبارة عن سدود شاهقة، ليس لها أكثر من مهمة واحدة، هي أن تمسك الأرض أن تميد وهي مفترشة فوق الماء.. لا.. لعدة أغراض في الوقت الذي تقوم بهذه المهمة تصلح للمهام الأخرى، فتصلح حتى أن تكون أعلاماً.

وفي هذا إرشاد، لاحظوا في كل خلق الله سبحانه وتعالى إرشاد للناس في مجال التصميمات، في مجال الصناعات. عندما تصمم لك منـزلا تحاول أن يكون تصميمك للمنـزل بالشكل الذي لا يضيع المساحة، بعض الناس يأتي فيصمم له منـزلاً، فيأخذ مساحة في موقع جميل، ويخسر فيه مبالغ كبيرة، لكن صممه تصميماً عشوائياً، فترى البيت هذا بشكله الكبير، وتراه من داخله لا يفي بحاجات صاحب البيت من الغرف، ومن الصالات، وغيرها، ضيع أرضية، وضيع أموالاً كثيرة، وسبب ذلك كله ضعف التصميم، والخطأ في التصميم.

الله الذي صمم هذه الأرض، لاحظ كيف يعمل، لا يضيع شبراً واحداً من الأرض بدون فائدة، فالمساحات التي تشغلها الجبال في الأرض يعوضها، فتطلع مساحة الجبل أكثر من المساحة التي يشغلها، وهكذا يجعل الجبل صالحاً للزراعة، يجعل الجبل صالحاً للاستقرار، صالحاً لأن تعيش فيه حيوانات أخرى، صالحاً لأن يكون فيه مراعي، والمهمة الرئيسية له هي أن تكون رواسي تمسك الأرض، أليس هو سبحانه وتعالى من يعلمنا هنا كيف نصنع؟. وكيف نعمل؟. وهو هو من كان يستطيع ويستطيع فعلاً، أن يعوض المساحة التي يشغلها الجبل بقطعة أرض يزيدها من طرف الأرض أليس هذا ممكن؟. لكن لا، لا يضيع شيئاً. {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل:17 ـ18)

فتأمل في هذه النعم، تأمل فيها كنعم، تأمل فيها كمخلوقات مهمة، مدبَّرة، تدل على حكيم دبرها، على قدير صنعها، أليست هذه تدل كلها بالنسبة لنا؟ تجعلنا نقطع بأن الله هو الملك، هو الإله، هو القدير، هو الحكيم، هو الرؤوف، هو الرحيم. إذاً فهو وحده الذي له الحق أن يدبر شؤون عباده، هو وحده الذي له الحق ويملك الحق في التشريع لعباده، وأن يهدي عباده، ويرسم لهم طريق الهداية، هو له وحده الحق في أن يكون هو الملك الذي يحكم هذه الأرض، وهذا الإنسان، التي هي من خلقه، وهو من خلقه.

وارجع إلينا لترى كيف تعاملنا نحن البشر مع الله سبحانه وتعالى، أليس الله هو الملك؟. في أكثر من آية {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ}(فاطر: من الآية13) هكذا يقول في آيات أخرى سنصل إليها إن شاء الله {لَهُ الْمُلْكُ} جاءوا لينـتزعوا فيما يتعلق بالسلطة، فيما يتعلق بالحكم على عباده، فيما يتعلق بولاية شأن عباده.. ألم ينـتزعها الآخرون من يده سبحانه وتعالى؟. لا أنهم مغالبون له، ولكن نحن من منحناهم أن يبعدونا عن حاكمية الله، وعن سلطان الله، نحن البشر الذين منحناهم أن يبعدونا عن حاكمية الله، وعن سلطان الله، وأن يتسلطوا هم على رقابنا.. كيف يمكن من يدبر شؤون العالم على هذا النحو، ومن يكون هو الملك، ثم لا يكون له أي وسيلة لتدبير شؤون عباده، ولنفاذ ملكه، وسلطانه على عباده؟! أبداً ليس هذا مما يمكن أن يكون غائباً، وأن يكون غير واقع.

ثم نأتي نحن البشر كل واحد يحكم الآخرين رغماً عنهم، إما بالغلبة، أو نأتي نحن لنختار فلاناً، أو فلاناً، هكذا اختياراً عشوائياً لا يقوم على أساس من هدى الله سبحانه وتعالى، ولا على أساس مقاييس إلهية، ومقاييس دينية يرسمها الله سبحانه وتعالى لعباده.. ألسنا هنا من أضعنا سلطان الله، وأضعنا حاكمية الله علينا؟. هذا هو من الكفر بالنعم، هذا هو نفسه من الشرك بالله؛ لأن الله الذي خلقك، وخلق هذا العالم، وهو الذي دبر شؤون هذا العالم على هذا النحو المفصل العجيب، هو وحده الذي له الحق أن يلي شؤونك، أن يكون هو وليك {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(البقرة: من الآية257) فهو وليهم في هذه الحياة، كما هو وليهم في الآخرة.

فعندما نعطي حاكمية الله لمن لا يكون على أساس من هدى الله، فنحن كمن يتجه بعبادته إلى غير الله، وفعلاً أذكر عند بعض العلماء من يعتقد هذه شركاً فعلاً، يعتبرها شركاً، أن تؤمن بحاكمية غير الله، أو حاكمية سلطان ليس على أساس من هدي الله، لا يمتلك شرعية تقوم على أساس من هدي الله سبحانه وتعالى، فإنك قد أشركت بإلهك، قد أشركت بالله.

فهو الذي يشرع لعباده؛ لأنه ليس باستطاعة أحد غيره، لا ملك من ملائكته المقربين، ولا نبي من أنبيائه المرسلين، ولا أحد من أوليائه، ولا أحد مهما بلغ ذكاؤه، أو فطنته يستطيع أن يشرِّع للناس، وأن يرسم الهداية للناس في هذه الحياة بعيداً عن الله، المسألة عميقة جداً.. الله هو الذي خلق الإنسان، وهو الذي خلق هذا العالم، هو الذي يعلم السر في السموات والأرض، يعلم أعماق النفس البشرية، لا يستطيع غيره أبداً أن يشرع على النحو الذي يمكن أن تسير الحياة عليه نحو السعادة، ونحو الاستقامة أبداً مهما كان.

ولهذا ترى بأنه حتى أنبياء الله (صلوات الله عليهم) إنما كانوا مبلغين لهدي الله، ولم يكونوا عبارة عن مشرعين هم، على الرغم من أنه قد أكملهم، واصطفاهم، فلم يأت ليكمل نبيه، ويصطفيه، ثم يقول له: أنت قد بلغت المرحلة فيما يتعلق بحرصك على الأمة، في كمالك الإنساني، فانطلق أنت وشرِّع للناس ما تراه مناسباً، وأنت موثوق بك عليهم؛ لأنك رحيم بهم، وحريص عليهم.. ليس باستطاعته ـ حتى وإن كان حريصاً، وإن كان رحيماً، نبي من أنبيائه، أو ملك من ملائكته، أو أحد من أوليائه، أو أحد، أو أحد من الناس جميعاً يستطيع، لا يستطيع مهما كانت نيته حسنة، مهما كان حريصاً أن يشرِّع هو للناس التشريع المستقيم.

بل نحن الآن ألسنا نشكو بأننا ـ ونحن نقدم هدي الله لعباده لدقة المسألة، لخطورتها ـ ألسنا نشكو من أخطاء كثيرة وقعت على أيدي علماء من هنا وهنا؟ والكل أو أكثرهم فعلاً ينطلقون بحسن نية، ويرون بأنهم يبلغون عن الله، ويبلغون هدي الله، وحتى أولئك الذين يقولون: كل إنسان ينطلق ويبحث عن خالقه، ثم يبحث عن الأحكام التي يتعبد الله بها إنما انطلقوا من شعور بأنه يجب على الإنسان أن يعبد الله، لكن قدمت القضية على هذا النحو المغلوط الذي أدى إلى إبعاد الناس، إبعاد المسلمين عن هدي الله، أو أكثرهم أبعدوا عن هدي الله، ثم نشأت سبل متعددة جائرة على أيدي من هم يريدون أن يصلوا بالناس إلى تعبُد الله سبحانه وتعالى فيما شرع لهم.

{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (النحل:17) يتذكرون بأنه وحده من يخلق، هو من يملك، ويقدر، ويعلم كيف سيكون هذا التشريع مناسباً مع الحياة، ومع الإنسان، وحتى لا يقال بأنه سننطلق من الحفاظ على مصالحنا، المصالح مترابطة، الإنسان مرتبط بهذا العالم، العالم مرتبط بهذا الإنسان، القضية هي عبارة عن شبكة مترابطة، ولهذا جاء التشريع نفسه شبكة مترابطة من الأحكام، ومن الإرشادات، ومن التوجيهات، شبكة مترابطة، ليس هناك أحكام شرعية تقول هكذا جاء ليتعبد الناس به، هكذا لمجرد التعبد به، أبداً، كلها شبكة مرتبطة مع بعضها بعض والإنسان بما هو عليه شبكة مرتبطة مع العالم على ما هو عليه، والكل ليسوا بعيدين عن الله سبحانه وتعالى، الحياة بكلها تتجه لغاية رسمها الله سبحانه وتعالى للإنسان عندما استخلفه عليها.

فنحن بحاجة إلى أن نقطع ونحن نثق بالله سبحانه وتعالى أنه وحده هو من يملك حق التشريع لنا، وحق ولاية أمرنا؛ لنحقق أيضاً {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (المائدة:56).

اللهم وفقنا لأن نكون من أوليائك، ولأن نكون ممن يثق بك، وبصرنا اللهم هدايتك التي هديت عبادك إليها، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، واهدنا الصراط المستقيم، وأبعدنا عن السبل

الجائرة في هذه الحياة، وصلى الله على محمد وعلى آله.

والسلام عليكم ورحمة الله.

[ الله أكبر / الموت لأمريكا/ الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود/ النصر للإسلام]

التعليقات مغلقة.