حرب يقررها الأميركيون.. فتنتهي إسرائيلياً بدفن «الشرق الجديد»

صحيح أن حرب تموز 2006 كانت معركة مصيرية بالنسبة لـ«حزب الله» وإسرائيل، إلا إنها كانت أيضاً «معركة أمم»، سياسياً وديبلوماسياً وعسكرياً، ومعركة تثبيت الوجود الأميركي في منطقة الشرق الأوسط، حيث فرضت هذه الحرب على الإدارة الأميركية، على مدى 33 يوماً تبديلاً في الاستراتيجيات والأولويات حماية لأمن إسرائيل، الحليف الأول لها في المنطقة.

بعد أحداث 11 أيلول 2001، قال الرئيس الأميركي السابق جورج بوش إن «حربنا ضد الارهاب تبدأ مع القاعدة، ولكن لا تنتهي هناك، فهي لن تنتهي حتى العثور على كل إرهابي في العالم، إيقافه، وهزيمته».

وعلى الرغم من أن «حزب الله» في ذلك الوقت كان مدرجاً على «اللائحة الأميركية للإرهاب»، إلا إنه لم يكن أولوية أميركية، حتى أن السفير الأميركي في بيروت وقتها أكد لمسؤولين لبنانيين أن لا علاقة لـ«حزب الله» بالإرهاب الذي تلاحقه الولايات المتحدة، بحسب ما ينقل دايفيد هرست، وهو موفد صحيفة «الغارديان» البريطانية، في كتابه «احذر الدول الصغيرة: لبنان، أرض معركة الشرق الأوسط».

هذه الأولوية تغيرت لاحقاً، وفي وقت قصير جداً، حيث شهد الخطاب الأميركي تحولاً ليصبح «محور الشر» أساسه، قاصداً إيران و«حزب الله» وسوريا. وبحسب مساعد وزير الخارجية وقتها ريتشارد أرميتاج (2001-2005) فإن «حزب الله أسوأ من تنظيم بن لادن نفسه». والسبب ببساطة، بحسب قول الرئيس الأسبق لوكالة الاستخبارات الأميركية روبرت باير، أن «الإسرائيليين أرادوا أن يلاحق الأميركيون حزب الله». والذي يريده الإسرائيليون يريده حلفاؤهم من «المحافظين الجدد» في الإدارة الأميركية، كما كتب هيرست.

 

خريطة جديدة للشرق الأوسط

هنا، تجدر الإشارة إلى أن «المحافظين الجدد»، وقبل أن يحصلوا على المناصب الواسعة في الإدارات الأميركية، وبعد حرب نيسان 1996، قدموا ورقة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية الجديد بنيامين نتنياهو وسلفه الخاسر شمعون بيريز، بعنوان «استراتيجية جديدة لحماية المملكة»، تضمنت توصيات دعوة تل ابيب للتخلي عن مبدأ «السلام في مقابل الأرض» ليحل مكانه «السلام عبر القوة». بالإضافة إلى ذلك، تطرح الورقة استراتيجية تعاون بين الولايات المتحدة وإسرائيل لوضع خريطة جديدة للشرق الأوسط، على أن تبدأ بالإطاحة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين، ودعم الملك حسين في الأردن على إعادة المملكة الهاشمية إلى العراق.

إلى ذلك، فإنه على «المحور الطبيعي»، بحسب الورقة، أي إسرائيل وتركيا والأردن والعراق، العمل على إضعاف سوريا وتهديد سيادتها كمقدمة لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. وعلى إسرائيل للوصول إلى ذلك، استدراج سوريا وإيران و«حزب الله» إلى حرب في منطقة البقاع تحديداً في لبنان، حيث تواجد السوريون سابقاً. وبالتالي فإن وصول «المحافظين الجدد» إلى الحكم في الولايات المتحدة، وهم الذين وجدوا في جورج بوش الشخص الأفضل لتحقيق أهدافهم، جعل من «حزب الله» هدفاً من ضمن ما يسمى «محور الشر».

 

حرب ضد «محور الشر»
وبالعودة إلى حرب تموز، يمكن القول إن الصحافي الشهير سيمور هيرش قدم المقاربة الأقرب بين تلك الحرب ونظرة «المحافظين الجدد» التي يمثلها بوش. وقد كتب هيرش في مقال بعنوان «مراقبة لبنان… مصالح واشنطن في حرب إسرائيل» في مجلة «نيويوركر» في 21 آب 2006، أنه بعد أيام من اختطاف الجنديين الإسرائيليين في 12 تموز، وما لحقه من ردة فعل إسرائيلية، كانت إدارة بوش «سلبية».

ففي قمة «مجموعة الثماني» في سان بطرسبرغ، قال الرئيس الأميركي «إنها لحظة الصفو… لقد أصبح واضحاً الآن لماذا ليس هناك سلام في الشرق الأوسط»، محملاً محور «حزب الله» وإيران وسوريا مسؤولية «عدم الاستقرار».

لكن الولايات المتحدة كانت على علم بالحرب قبل عام على الأقل. وفي تموز 2006 توجه مسؤولون إسرائيليون إلى واشنطن للحصول على الضوء الأخضر، وقد عمل على ذلك اثنان من «المحافظين الجدد» في إدارة بوش، وفقاً لما ينقل هيرست في كتابه.

وفي حديث إلى مجلة «ويكلي ستاندرد» اختصر أحد قياديي «المحافظين الجدد» ويليام كريستول الأمر بالقول «هذه حربنا أيضاً» حتى أنه طلب من الإدارة الأميركية مواجهة هذا العداء الايراني باستهداف منشآت طهران النووية. ولتعزيز هذه الفكرة أكثر، نقل هيرست عن المتحدث السابق باسم البيت الأبيض نويت غينغريش قوله إن الوقت قد حان لخوض حرب عالمية ثالثة للدفاع عن الحضارة وعن أميركا، ونقل عن مسؤول آخر في الإدارة الأميركية أنه «عبر دمشق والضاحية الجنوبية لبيروت إلى حماس.. يوجد تهديد فارسي واحد يريد تغيير اللعبة الاستراتيجية في الشرق الأوسط».

سفير واشنطن في الأمم المتحدة جون بولتون كان أفضل من عبر عن نظرة «المحافظين الجدد»، وقد «كان يتشاطر مع إسرائيل، ومن دون إذن، مسودات إدارة بوش لقرارات الأمم المتحدة الرامية إلى وقف الحرب ضد حزب الله في تموز العام 2006»، كما أوردت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندليسا رايس في مذكراتها. بولتون نفسه لم ينف ذلك، معتبراً أنها ليست خطيئة ولا ذنباً، «بالطبع أطلعت الإسرائيليين أولاً بأول بشأن المستجدات في المفاوضات. فهكذا نعامل الحلفاء الوثيقين».

 

درس لإيران في لبنان

وبحسب هيرش، فإن إدارة بوش كانت تريد من الاعتداء الإسرائيلي اختبار أي استهداف مستقبلي لإيران. وكانت الإدارة الأميركية متورطة جداً في التحضيرات الإسرائيلية للرد على «حزب الله»، حيث ان بوش ونائبه ديك تشيني كانا مقتنعين بأن الضربات الجوية الإسرائيلية ضد ترسانة «حزب الله» كفيلة بتهدئة القلق الإسرائيلي من جهة، لكن الأهم أن تكون مقدمة لضربة جوية أميركية ضد المنشآت النووية الإيرانية من جهة ثانية، بحسب ما نقل هيرش عن مسؤولين ديبلوماسيين واستخباراتيين أميركيين.

وكتب هيرش وقتها، «صب البيت الأبيض تركيزه على تعرية حزب الله من صواريخه، لأنه في حال اللجوء إلى الخيار العسكري ضد إيران، كان من الضروري التخلص من سلاح حزب الله لتفادي أي انتقام ضد إسرائيل. بوش أراد أن يجمع الهدفين، أولاً ملاحقة إيران ومنشآتها النووية كجزء من محور الشر، كما كان مهتما بالتخلص من حزب الله في إطار نظرته للديموقراطية، وخصوصاً في لبنان».

ونقل هيرش أنه في ربيع 2006، وبحسب مسؤول سابق في الاستخبارات الأميركية، فإن ضباطا رفيعي المستوى في سلاح الجو الأميركي، وبضغط من البيت الأبيض، شاركوا في التخطيط لهجوم جوي ضد المنشآت الإيرانية بالتشاور مع نظرائهم في سلاح الجو الإسرائيلي.

ووفقاً للمسؤول الاستخباراتي نفسه، فإن «الجميع يعلم بأن مهندسين إيرانيين ساعدوا حزب الله على بناء الأنفاق وتموضع مدافعه تحت الأرض، ولذلك فإن سلاح الجو الأميركي توجه إلى الإسرائيليين، قائلا: «دعونا نتشارك في ما لدينا عن إيران وما لديكم عن لبنان». وبحسب المسؤول الأميركي، فان النقاشات وصلت إلى هيئة الأركان ووزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد.

 

«الظروف المؤاتية».. لم تأت

كانت رايس الراعي لاستراتيجية تغيير الوضع في لبنان، وهي صاحبة مشروع «الشرق الأوسط الجديد». وعلى الرغم من الدعوات المتلاحقة إلى وقف إطلاق النار، بقيت رايس على موقفها الرافض تماماً بحجة انتظار «الظروف المؤاتية»، حتى أن الاسرائيليين أنفسهم، كانوا يفكرون جديا في بعض مراحل الحرب بوقف النار، غير أن الادارة الأميركية كانت ترفض ذلك لأسباب سياسية.

وفي 21 تموز، اليوم العاشر للحرب، جددت رايس رفضها وقف إطلاق النار، ووصفت الحرب الإسرائيلية بأنها «آلام مخاض لولادة شرق أوسط جديد». قبل ذلك، وفي قمة الدول الثماني في سان بطرسبرغ، قال المتحدث باسم البيت الأبيض إن بوش رفض أن يمارس ضغوطاً على إسرائيل لوقف عدوانها على لبنان، وأضاف أنه «من الواضح أن الدول العربية من السعودية إلى الأردنيين إلى المصريين، لا ينظرون إلى حزب الله على أنه كيان حكومي مشروع بل يعتبرونه تهديداً فعلياً للحكومة اللبنانية».

بالنسبة إلى واشنطن، فإن مهمة إسرائيل الأولى كانت «تكسير عظام حزب الله». وقد أمنت أميركا لإسرائيل الغطاء الديبلوماسي.

وفي وقت كانت الأمم المتحدة وروسيا والصين وأوروبا ودول العالم الثالث تدعو إلى وقف إطلاق النار، كانت إدارة بوش وصديقها الحميم رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير يريدان استمرار الحرب.

وفي 28 تموز 2006، وقف بوش وبلير كتفاً بكتف في مؤتمر صحافي ليؤكدا رفضهما وقف إطلاق النار، مشددين على أن «الهدف هو موجز الفصل السابع من النظام الداخلي لمجلس الأمن، ووضع حد للعنف، وإعطاء تفويض لقوة متعددة الجنسيات، وهذه لحظة أساسية وجوهرية في تاريخ الشرق الأوسط».

 

لكن ما هي «الظروف المؤاتية» التي كانت تنادي بها رايس؟.

يبدو أن الأميركيين كانوا واثقين بقدرة السلاح الجوي الإسرائيلي على تدمير ترسانة «حزب الله» الصاروخية، ولذلك أصروا على هذا الانتظار الطويل، إلا ان الإسرائيليين خيبوا أمل الأميركيين.

وقد عجلت إدارة بوش بإقامة جسر عسكري جوي لارسال صواريخ موجهة بالليزر إلى إسرائيل قادرة على «اختراق أهداف عميقة تحت الأرض»، وذلك بعدما طلبت إسرائيل منها شحنة عاجلة.

 

قانا الثانية تربك رايس

وفي 23 تموز، زارت رايس تل أبيب لتمنح إسرائيل مهلة لا تقل عن أسبوع لتركيز «إنجازات عسكرية» على الأرض تتيح تمرير «تسوية سياسية».

وفي ذلك الوقت، كان الإسرائيليون تخلوا عن هدفهم بإطاحة «حزب الله»، حتى أن صحيفة «يديعوت» الإسرائيلية نقلت عن رئيس الأركان دان حالوتس «أننا لم نقل اننا سنقضي تماماً على صواريخ حزب الله ورجاله».

مجزرة قانا الثانية في حرب العام 2006في 30 تموز 2006، وقعت مجزرة قانا الثانية، وانعكست ارتباكا في الموقف الأميركي. إثر المجزرة، قالت رايس في مؤتمر صحافي في القدس المحتلة، ان الوقت قد حان لوقف إطلاق النار، ثم استدركت قائلة «هناك حاجة إلى وقف إطلاق نار يضمن الاستقرار».

أحدث موقفها خلافا في الإدارة الأميركية، ففي وقت أصرت رايس على منح إسرائيل ثلاثة أيام، أبدى بوش تفهماً لمطالبة إسرائيل بمهلة اضافية لثلاثة أسابيع.

في هذا السياق، تقول وزيرة الخارجية السابقة في كتاب مذكراتها إنها خلال اجتماع حضره بوش «قلت إن لبنان كان على وشك الانهيار وإن الأمم المتحدة ستصوّت قريباً على قرار دولي.

لكن ديك تشيني (نائب الرئيس) كرر وجهة نظره بأن على الحرب أن تتواصل». وتشير الى أنها ردّت على تشيني «بصوت عالٍ بما يكفي ليسمعه الآخرون» متوجهة الى بوش، «افعل ذلك.. مدد الحرب، وسيُقضى عليك في الشرق الأوسط».

عندها طلب بوش وقف الاجتماع، وقال إنه «سيراجع الجميع بالمسألة». ثم لحقته رايس الى غرفة الاجتماع المصوّر وسألت «كنتُ هناك أفاوض على قرار، والآن لا نريد قراراً؟».

هذا الارتباك الأميركي ولّد خوفاً لدى الإدارة. لم تجر رياح الحرب كما اشتهاها جورج بوش، فاقتنع بأن الشرق الأوسط الجديد الذي تحدث هو ورايس عنه، سيكون مستنقعاً لزجاً ربما ينهي طموحات بلاده ويتركه مع حليف إسرائيلي ضعيف.

لذا، في 31 تموز 2006، دعت رايس مجلس الأمن إلى التوصل لاتفاق سريع لوقف إطلاق النار، انتظر 14 يوماً ليتم إقراره على وقع الصواريخ التي كانت تمطر إسرائيل من جهة والمأزق البري الذي جعل الجيش الاسرائيلي عاجزا عن دخول عيتا الشعب وحدها من جهة ثانية.

التعليقات مغلقة.